fbpx
معرفة

كتاب “نظام التفاهة”.. التافهون يتسيدون المشهد

متابعة: نسرين طارق

من مفارقات القدر والواقع الذى يحاصرنا، أن التافهين قد حسموا المعركة لصالحهم في هذه الأيام، لقد تغير الزمن زمن الحق والقيم، إلى الرداءة وتشييئ الإنسان، ذلك أن التافهين أمسكوا بكل شيء، بكل تفاهتهم وفسادهم؛ وأصبحوا رموز المرحلة.

عند غياب القيم والمبادئ الراقية والعلم الحقيقي ، يطفو الفساد المبرمج ذوقاً وأخلاقاً وقيماً؛ إنه زمن الصعاليك الهابط”.. هذا ليس كلامنا، بل رؤية الفيلسوف الكندي آلان دونو، في كتابه الجذاب ، نظام التفاهة، الذى شعرنا بالغيرة المهنية حيالنا، لأننا لسنا مؤلفيه .

والكاتب يكمل في رؤيته، بقوله كلما تعمق الإنسان في الإسفاف والابتذال والهبوط كلما ازداد جماهيريته وشهرته.

التافهون .. رموز

مواقع التواصل نجحت في تحويل التافهين لرموز، حيث صار بإمكان أي جميلة بلهاء، أو وسيم فارغ أن يفرضوا أنفسهم على المشاهدين، عبر عدة منصات تلفزيونية عامة، هي أغلبها منصات هلامية وغير منتجة، لا تخرج لنا بأي منتج قيمي صالح لتحدي الزمان.

كما قلنا، الكتاب الصادم هذا من تأليف الفيلسوف الكندي آلان دونو، و هو كاتب ومؤلف فرنسي كندي حاصل على دكتوراه في الفلسفة من جامعة باريس ، ويعمل محاضراً في قسم علم الاجتماع بجامعة كيبك، وقد كتب العديد من الكتب والمقالات النقدية، انتقد فيها سياسات التعدين الكندية في إفريقيا، والملاذات الضريبية ، والشركات متعددة الجنسيات ، والأيديولوجيات، ومفاهيم الاقتصاد.

تشييئ الإنسان وتسليعه

يمكن تصنيف الكتاب من نوعية أدب “ما بعد الحداثة”، من حيث الاتجاه الفكري الذي ظهر في الغرب منتصف القرن الماضي، والذي يهتم بنقد مآلات وصيرورة الحداثة الغربية، التي استحالت إلى تضخم مفرط للنزعة المادية والاستهلاكية، ومن ثم “تشييئ” الإنسان وتسليعه عوض العمل على تحريره وصون كرامته، وهو ما يعبر عنه الفيلسوف الكندي المعاصر آلان دونو في كتابه الملفت هذا ب “نظام التفاهة”، الذي يُعرفه بـ “النظام الاجتماعي الذي تسيطر فيه طبقة الأشخاص التافهين على جميع مناحي الحياة، وبموجبه تتم مكافأة الرداءة والتفاهة عوضا عن العمل الجاد والملتزم”.

التغاضي عن الخطاب المستنير

ويناقش الكاتب كيف ازدحم المشهد الإعلامي بمحتوى منخفض الجودة بينما غالبًا ما يتم التغاضي عن الخطاب النقدي والمستنير.

و لا يحدد دونو أسباب الرداءة في وسائل الإعلام فحسب، بل يقدم أيضًا عددًا من الحلول، مثل زيادة الثقافة الإعلامية وزيادة التركيز على صحافة المواطن.

بالنسبة لأي شخص يتطلع إلى فهم قضية الرداءة في وسائل الإعلام وكيف يمكن معالجتها ، فإن “نظام التفاهة” هو كتاب يجب قراءته.

يقدم الكاتب آلان دونو تحليلًا ثاقبًا لقضايا ومخاطر استهلاك وتصديق سردية وسائل الإعلام الرئيسية.

كما يجادل بأن الإعلام ومجتمعنا قد استسلموا لثقافة الرداءة، حيث يرضى الناس باستهلاك المعلومات التي يسهل فهمها والتي لا تتحدى معتقداتهم ووجهات نظرهم للعالم.

جودة الفكر

تسببت هذه الثقافة في انخفاض كبير في جودة التفكير وخلقت ثقافة التوافق، حيث لا يتم تشجيع النقد والمناقشة المفتوحة.

يبدأ دونو بتقديم لمحة عامة عن الوضع الحالي لوسائل الإعلام ، مشيرًا إلى أنه أصبح متجانسًا بشكل متزايد وأن “الوسائط الإعلامية قد تحولت إلى أداة لإنتاج الكمية وليس الجودة.

ينظر إلى تأثير التكنولوجيا ودورة الأخبار على مدار 24 ساعة، مشيرًا إلى أن هذه التطورات أدت إلى انخفاض في جودة تفكيرنا وعدم وجود تفاعل نقدي مع وسائل الإعلام.

الشعبوية بديل التفكير النقدي

كما يجادل بأن هذا قد تسبب في انخفاض في الخطاب العام، حيث تم استبدال التفكير النقدي والمناقشة المفتوحة بـ “سرد التوافق” الذي تروج له وسائل الإعلام الرئيسية.

في استكشاف قضية الرداءة، ينظر دونو في صعود الشعبوية وكيف تم تمكينها من خلال إنتاج وسائل الإعلام للكمية على الجودة.

ويوضح أيضا أن وسائل الإعلام متواطئة في هذا، ويشير إلى الطريقة التي ركزت بها على الإثارة والسطحية لدفع التقييمات، وكذلك الطريقة التي فشلت بها في التشكيك بشكل صحيح في وجهات نظر الشخصيات الشعبوية وتحديها.

كما يعرف أسباب تواجد “ثقافة الرداءة” حيث يرضى الجمهور باستهلاك المعلومات التي يسهل فهمها ولا تتحدى وجهات نظرهم العالمية.

هذا أدى إلى “الهروب من الواقع”، حيث يرضى الناس بالعيش في فقاعة من صنعهم ، بدلاً من الانخراط في العالم الحقيقي.

ويشير إلى أن هذا قد تسبب في انخفاض ثقة الجمهور في وسائل الإعلام ، مما ساهم بشكل أكبر في ثقافة الرداءة تلك.
من الحرفة إلى الوظيفة

الرأسمالية المتوحشة

يشير المؤلف إلى التحول الذي طرأ على مفهوم وجوهر العمل بحكم سيادة منطق الرأسمالية المتوحشة، التي أحالت البشر إلى مجرد آلات مسخرة لتحقيق فائض الإنتاج اللازم لاستمرار المنظومة الاقتصادية، بحيث جرى الانتقال – في هذا الصدد – من الحرفة craft التي تفيد الشغف والتخصص والخلق، إلى الوظيفة job بوصفها مجرد وسيلة لتوفير لقمة العيش، مما يصب في صالح نمو الرأسمال.

وهكذا فلا عجب إنْ رأينا – على سبيل المثال لا الحصر – بائع صحف وكتب لا يكلف نفسه عناء قراءتها، فهي لا تعدو كونها مصدر دخل ورزق بالنسبة إليه.

ويبين الكاتب كيف تحولت النقود من مجرد وسيلة لسد حاجات معينة إلى غاية بحد ذاتها، إذ أضحى الشغل الشاغل للبشرية في ظل عصر التفاهة اللهاث وراء النقود مهما تكن الوسيلة المتبعة في ذلك: “تبدأ المشكلات عندما نتوقف عن النظر إلى النقود كوسيط للقيمة، فنبدأ في التصرف وكأنها تتضمن قيمة أو كأنها قيمة في ذاتها.

من المثقف إلى الخبير

يسلط الفيلسوف الكندي الضوء على حقيقة صادمة مفادها أن الفضاءات التي من المفترض أن تُصنف في خانة مضادات الرداءة، وفي مقدمتها الجامعة، أمست لبنة أساسية في تثبيت نظام التفاهة الذي يضيق الخناق علينا.

فبدل أن تضطلع الجامعات بأدوارها التنويرية، وتفرز لنا مثقفين نقديين يشتبكون فكريًا مع القضايا والأسئلة المجتمعية الملحة، أصبحت الجامعات مرتعا لما يُسمى ب “الخبراء” أو “أشباه الخبراء”، الذين لا يألون جهدًا في إضفاء الشرعية على النخب الاقتصادية المهيمنة والتعمية على تجاوزاتها.

فالخبير، مثلما يشدد على ذلك إدوارد سعيد، يُدفع له لكي يفكر بطريقة معينة.

وبالتالي فلا غرو أن نجده يشكك في ظاهرة التغير المناخي الناجمة أساسا عن الصناعات الرأسمالية الملوثة، أو حين ينكر المضار الصحية الناجمة عن تدخين التبغ وما شاكله من منتجات وسلع السوق.

إن نظام التفاهة يعني انسحاب التفكير العميق والنظرة المتمعنة إلى الأشياء، وبالتبعة إفساح المجال أمام تغول النزعة التقنية ذات الطابع التبسيطي والتنميطي، الذي تكرسه القواعد والأعراف الأكاديمية المرعية.

المتعلم الأمي

فإلى جانب مثال الخبير، يتخرج من الجامعات سنويا ما يدعوه الكاتب بـ “المتعلم الأمي”، وهو شخص متمكن من المعارف التقنية والعملية، لكنه فارغ فكريًا وإيديولوجيًا، عاجز عن التعاطي مع الإشكالات الفلسفية والنظرية المتصفة بالعمق وكثافة المعنى.

كما يتجسد انقياد الجامعات العالمية لمنطق السوق – بما فيها تلك التي توصف بالعريقة -في تبنيها لمسلمات النظام الرأسمالي.

فحتى المعايير المعتمَدة في تصنيف المؤسسات الجامعية لم تعد تختلف جذريا عن مؤشرات القياس والتصنيف المتبناة في الاقتصاد، وهو ما يتجلى، على سبيل المثال، في تغليب الكم على الكيف (الإفراط في تقدير أعداد الأوراق العلمية المنشورة)، فضلا عن إدماج معايير متصلة بمجال الدعاية والتسويق (الحضور الإعلامي للجامعة، الشراكة مع القطاع الخاص… إلخ).

الجامعات .. كيانات مالية

بل إن بعض الجامعات أمست كيانات مالية واقتصادية قائمة بذاتها، إذ لا تتورع في استثمار أموال موظفيها في الجنان الضريبية والصناعات الملوثة للبيئة.

عالم التجارة: القلب النابض للتفاهة

يفند “آلان دونو” مسلمات النظرية الكلاسيكية في الاقتصاد الرأسمالي، التي تفيد بأن السوق تحركها اعتبارات عقلانية مضبوطة، إذ يستشهد بالعواقب غير المحسوبة والخارجة عن سيطرتنا التي تسببها الخوارزميات وغيرها من تقنيات الذكاء الاصطناعي. كما يعري المؤلف زيف نظرية “التقاطر إلى الأسفل”، التي تفيد بأنه في حالة ما إذا أصبح الأشخاص الأثرياء أكثر ثراءً، فإن الثراء سرعان ما يتقاطر إلى الفئات الاجتماعية محدودة الدخل.

فبالرغم من أن الواقع كذب تلك النظرية، إلا أن افتراضاتها ما تزال تلقى صدى لدى “أشباه الخبراء”، الذين يذودون عنها بشراسة أمام شاشات الإعلام.

ومما يزيد الطين بلة أن القوى والجماعات التي يُفترض أن تشكل ثقلا مضادا لسطوة الرأسمال جرى تدجينها وترويضها، الشيء الذي يصدق على النقابات التي أمست مهادنة للشركات متعددة الجنسية.

بينما تحول الكثير من قيادات التنظيمات النقابية بأنفسهم إلى حملة أسهم ومستثمرين. وينسحب ما قيل عن النقابات على الأحزاب السياسية التي ما عادت تستميت في الدفاع عن العدالة الاجتماعية ودولة القانون.

سيطرة التافهين على الفن والثقافة

لم ينجُ المجال الفني والثقافي بدوره من سيطرة التافهين أصحاب الذوق الهابط، على حين أضحت الأعمال الفنية والثقافية الرصينة التي تحترم عقل المتلقي عملة نادرة.

ولعل ذلك يُعزى أساسًا، إلى هيمنة منطق السوق الاقتصادية على الصناعة الفنية، إذ يتم، في الأغلب تسخير الفن لتمرير الرسائل المراد تلقينها وإشباع الميول السائدة لاستدامة النظام الرأسمالي، في ضوء ملكية (بكسر الميم) الأثرياء لوسائل الإعلام واستحواذهم على سوق الإعلانات.


ما العمل للإطاحة بنظام التفاهة؟

ينتهي آلان دونو إلى أننا نعيش في ظل “بلوتوقراطية” (حكم الأثرياء)، وليس في كنف نظام ديمقراطي يستوعب كل التوجهات والمصالح، بحيث أفاض المؤلف في الحديث عن واقع تضخم نفوذ الشركات العالمية والمنظمات غير الحكومية التي تنهب موارد دول الجنوب، من طريق توظيف مصطلحات فضفاضة مثل “الحوكمة”، الأمر الذي يفضي إلى إفراغ سلطات الحكومات والبرلمانات المنتخَبة من محتواها، إذ تصبح هذه الأخيرة مجرد واجهة للتمويه على الوضع القائم.

الإطاحة بنظام التفاهة

وفي تقدير الفيلسوف الكندي، فإن السبيل للإطاحة بنظام التفاهة لا يمكن أن يتم إلا بكيفية جماعية أو ما يصفه بـ”المقاطعة الجماعية”، مع ما يستلزمه ذلك من طرق تفكير إبداعية لإنهاء وجود المؤسسات والقواعد التي تضر بالصالح العام.

محو الأمية الإعلامية

يوفر دونو عددًا من الحلول لقضايا التفاهة، بما في ذلك الحاجة إلى مشهد إعلامي أكثر تنوعًا، ومشاركة أكثر أهمية مع وسائل الإعلام ، وأن تركز المؤسسات الإعلامية على الجودة أكثر من الكمية. كما يدافع عن الحاجة إلى محو الأمية الإعلامية، مشيرًا إلى أنه من الضروري للناس أن يكونوا قادرين على التمييز بين الحقيقة والرأي في وسائل الإعلام، وكذلك القدرة على التمييز بين المصادر الموثوقة وغير الموثوقة.

كما دعا إلى تطوير صحافة المواطن، التي يرى أنها ضرورية لتعزيز الخطاب العام، وكذلك لزيادة التركيز على التعليم ومحو الأمية الإعلامية في المدارس.

خلاصة الكتاب بشكل عام ، أنه يقدم تحليلًا متعمقًا لقضايا ومخاطر التفاهة في وسائل الإعلام ، ويقدم عددًا من الحلول التي يمكن أن تساعد في معالجة هذه القضايا.

مكافحة الرداءة

ويحدد الطريقة الوحيدة لمكافحة الرداءة هي أن يصبح الناس أكثر تفاعلًا مع وسائل الإعلام وأن يكونوا أكثر انتقادًا للسرد الذي يتم تقديمه لهم، بالإضافة إلى تعزيز التركيز بشكل أكبر على محو الأمية الإعلامية في أنظمتنا التعليمية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى