fbpx
معرفة

حكاية آخر فتوة في مصر.. الكاتب الصحفي ياسر البحيري يخص بوابة الجمهورية الثانية بحوار عمره 20 عام

كتب: الكاتب الصحفي/ ياسر البحيري
تدقيق لُغوي: ياسر فتحي

خص الكاتب الصحفي ياسر البحيري بوابة الجمهورية الثانية لنشر آخر حكايات الفتوات، يرويها آخر فتوات مصر الذي تُوفي عام 2013 عن عمر ناهز  108 عام .

حوارٌ صحفي عمره 20 عامًا، لكنه سقط سهوًا مِن النشر، وجدته مُستقرًا بين طيات أوراق قديمة، فرغم بساطته إلا أنه يؤرخ لحقبةٍ زمنية مِن تاريخ الحارة المصرية القديمة، أحمَدُ الله أنْ أكون شاهدًا عليه ..(حكايات مِن دفتر روايات الجدعنة)

مصطفىٰ الصيرفي، آخر فتوات الحسينية يتذكر:

زمن الفتونة

(الفتوة).. هو لقبٌ كان يطلق على الرجال الذين سيطروا على أحياء القاهرة في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وبدايات القرن العشرين؛ بهدف الدفاع عن الأهالي ضد اعتداءات جُند العثمانيين في البداية، ثم تطور الأمر إلى الدفاع عن المظلومين والضعفاء وحماية أهالي الحي مِن اعتداءات الأحياء الأخرىٰ، وضمان كرامتهم وصون حقوقهم.

ولم يكن لِزَفة عريس أنْ تدور داخل الحي دون حماية الفتوة وسطوته ومعاهداته مع فتوات المناطق الأخرىٰ.

ورغم أنَّ الروائي الكبير الراحل نجيب محفوظ، قد دوَّن بالتفصيل حياة أسلافه مِن الفتوات في مرويته (الحرافيش)، بدءًا مِن الجد عاشور الناجي، وحتى الحفيد الأخير عاشور الناجي، الذي درَّب الحرافيش على حمل العصا، والدفاع عن أنفسهم، منهيًا عصر الفتونة بكامله، إلا أنَّ الواقع المصري قد أنهىٰ قصة الفتونة بصورة أخرىٰ.. فقد كانت قضية (عرابي) الفتوة الذي قتل أحد الأشخاص في معركة بحي الحسينية بالقاهرة، وحوكم وقضي عليه بالسجن عشرون عامًا، هي نقطة النهاية لزمن مِن الفتونة في مصر، فبعدها قررت السلطة القضاء على نظام الفتوات وزيادة أعداد وقوة البوليس، ليحل محلهم في الدفاع عن الناس ورعاية حقوقهم ومصالحهم.

مراسم فتوة

وقد احتفظت ذاكرة الجماعة، خاصة الأحياء التي اشتهرت بالفتونة والملاحم البطولية الشعبية، كالحسينية، بأسماء فتوات كانت لهم سطوة كبيرة في الماضي، مثل المعلم عرابي، وإبراهيم عطية، ومحمود الحكيم، وزكي الصيرفي، ومِن بعده ابنه المعلم مصطفى الصيرفي، الذي رحل عن دُنيانا عام ٢٠١٣، وحين حاورته كان قد تجاوز المائة مِن عمره، وحين التقيته كان قابعًا في ركن المقهىٰ الذي يمتلكه جالسًا على مقعد خشبي متهالك، مرتديًا جلبابًا متواضعًا، لكنه حرص على أنْ يكون نظيفًا.. ومازالت عصاه لا تفارق يده، وإنْ كان اليوم يستخدمها لمعاونته في السير بضع خطوات مِن منزله القريب إلى مقهاه، بعد أنْ كان يستخدمها زمن الفتونة في الضرب والنزال والتحطيب، وكافة فنون العراك البلدي.
صحيح أنَّ السنوات سرقت بعض ملامحه القديمة.. وصحيح أنَّ الوهن ترك بصمته على صوته الذي كان جهوريًا، وصحيح أنَّ الجسم ازداد نحولاً، والبصر ازداد ضعفًا، والسمع قلت حساسيته، لكن الرجل (الفتوة) مازال متوقد الذهن حاضر النكتة، مجلجل الضحكة، سريع البديهة.
يقول: المعلم مصطفى الصيرفي، ولدت عام ١٩٠٥ بحي الحسينية بالقاهرة، وكانت نشأتي في رحاب عالم الفتونة، فقد كان والدي المعلم زكي الصيرفي، فتوة الحسينية، بعد عرابي وابراهيم عطية.. وقد رباني هؤلاء الفتوات على الجدعنة والشرف والعيش بكرامة، وحسن معاملة الناس، وكان والدي هو المثل الذي احتذيتُ به في حياتي، فقد كان حكيمًا حتى لُقِّب ب(حكيم الفتوات)، نظرًا لتَروِّيهِ في حَل المشاكل ومساعدة الضعفاء والمحتاجين، فأخذت عنه الحكمة والقوة.. وتوليت الفتونة مِن بَعده.

وللفتونة مقاييس يضعها المعلم مصطفى الصيرفي قائلاً:
أهمها جرأة القلب، وقوة الساعد، والصلابة، واللياقة في اتقاء الضربات، وإجادة استعمال العصا والتحطيب، وكل ذلك يحتاج إلى كثيرٍ مِن التدريب.
مُسترسلاً: ولكن الذي يحتاج إلى البيان هو لونٌ خاص مِن البطولة، يعتمد على الثبات في المعارك، واحتمال أشد الضربات هو الصبر عليها، وكان لهذه المقدرة قيمتها وسدادها.

السينما والفتوة

وسكت عم مصطفى وغامت عيناه، كأنما يتذكر بعضًا مِن تلك المعارك القديمة التي خاضها.

وكان لابد أنْ أحرك الحديث إلى نقطة أخرى فسألته: هل كان الفتوة مزواجًا كما صورته السينما؟
فاسترد يقظة عينيه وضحك وهو يقول: (هذا الكلام فارغ).. كل فتوات الحسينية تزوجوا بامرأة واحدة، ولكن السينما ليست كالواقع، فالفتوة رجل بسيط له حرفة يتكسب منها، وأكثرهم كانوا (قهوجية)، وأنا ورثت هذا المقهىٰ عن والدي وجدي، وأنا شاهدت فيلم (فتوات الحسينية )، وبه مبالغات كثيرة، فقد صور الفتوة أنه مزواج، ويعيش في ترف وثراء، وألحق به تهمة فرض الإيتاوات على الغلابة، وهذا غير صحيح.. فقد كان مَن يدفع الإيتاوة هم الأغنياء والتجار لحماية أموالهم، وربما كانت تلك حالات فردية مِن البلطجية لا تستمر طويلاً.. وفي هذا الزمن كانت الفتونة منتشرة في جميع الأحياء، ولكل حي فتوة، وكان بعض هؤلاء الفتوات نساء.. ففي حي المطرية كانت المعلمة (توحة)، فتوة الحي ولها واقعة شهيرة ضربت خلالها خمسة رجال وامرأتين، وأُغلِقَت على إثرها أبواب المنازل والدكاكين في شارعٍ بأكمله. وكان مِن المستحيل أنْ تَمُر زفة عريس في المطرية كلها دون استئذان المعلمة (توحة)، التي كانت تسير في الطريق وفي يدها السكين والعصا، ودخلت أغلب معاركها لنجدة زوجها.
كذلك هناك المعلمة (زكية) فتوة سوق الخضار وحي المناصرة، ويصفها عم مصطفى بأنها امراة سمراء غليظة الجسم، واسعة العينين مفتولة العضلات، قصيرة القامة كبيرة الرأس.. ويا له مِن وصف عجيب يؤكد المهابة ورعب الآخرين منها.. ويستطرد قائلاً إنَّ هناك أيضًا المعلمة (عزيزة الفحلة) وابنها محمد علي فتوات حي المغربلين.

وعاد عم مصطفى الصيرفي إلى السكوت والسرحان مرة أخرى، منطلقًا بأفكاره في أرجاء العالم الفسيح الذي لم يعد قائمًا اليوم.. ولكني استدرجته لواقعنا وسألته إنْ كان يشاهد التليفزيون ويتابع أخبار العالم؟
فقال: أنا لا أجيد القراءة أو الكتابة، ولست مِن هواة مشاهدة التلفزيون، ولكن تفزعني مشاهد الموت والدمار في العراق وفلسطين، ولا أستطيع إلا أنْ أقول: (على الدنيا السلام)، فالذي يحدث الآن بلطجة دولية، وليست فتونة.. وتضايقني أيضًا الأغاني هذه الأيام، التي هي عبارة عن صداع.. وهنا يردد عم مصطفى الصيرفي (فين ..؟ عبده الدردير ، وأبو حافظ، وأبودراع)، لأتساءل: مَن هؤلاء.. ؟
فيرد باستغراب وكأنهم أعلام الفن والطرب، وعمالقة الغناء في أرجاء بر مصر.. ويقول بلهجة تعني التأكيد بأنَّ هؤلاء جميعهم كانوا يغنون على هذا المقهى، ويجتمع أهل الحسينية لسماعهم قبل الإذاعة والتلفزيون.

الأعوان والمساعدين

وهنا بدا عم مصطفى مصرًا على الرحيل إلى زمنه الجميل في الماضى.. فطاوعته مستفسرًا منه عن موقع أعوان الفتوة وأهميتهم بالنسبة له فقاطعني: الفتوة الحقيقي الكبير ليس له أعوان.. ويعيش بمفرده وسط بيته حياة عادية، وعندما يستدعي الأمر يتدخل لحسمه بقوة ساعده.. وبالرغم مِن ذلك كان لبعض الفتوات أعوان يتقدم عليهم في البطولة ولا يعصون له أمرًا.. وهو الذي يدعوهم إلى المعارك ويخطط لها معهم في سرية تامة، ويعتبر الاعتداء على هؤلاء الأتباع، اعتداءٌ على الفتوة ذاته، وإذا حكم على أحد الفتوات بالسجن كنا نعتبر السجن مروءة وشرف، وربما كان هذا وراء المثل الشعبي (السجن للجدعان).

أسلحة الفتوة

وكان لابد أنْ أسأله عن الأسلحة التي كان يستخدمها، والتي يسميها عم مصطفى (عدة الفتوة)، مُسترسلاً.. أي فتوة لا تزيد عدته عن عصا، أو عدة عصي مِن الشوم يداور بينهما في الخناقات.. وقد كان كل فتوة شديد الفخر بعصاه، فيكثر مِن ذكرها في المجالس والإشادة بمزاياها وبطولاتها.. وقد ورثت عصاتي عن أبي وكان يطلق على عصيه أسماءً مثل (الحاجة فاطمة)، و(الحاجة بمبة)، وقد كنت أعتني بعصاي اعتناءً بالغًا، فاسقيها الزيت حتى تزداد قوة وصلابة ،وكان بعض الفتوات يزين عصاه بمقابض نحاسية وفضة، وبعضهم يقوم بطلائها بالحناء.
وجدتنى أسأله.. وبعد أنْ انتهى عصر الفتونة يا عم مصطفى ماذا حدث للفتوة ؟
فكر قليلاً قبل أنْ يقول: صار الفتوة هو كبير الحي، وعندما تحدث مشكلة يجتمع أصحاب الخلاف عنده للبحث عن حل، ويشير عليهم بأنسب الحلول السليمة، التي تحفظ الدم والكرامة وترجع الحق لأهله.. ولكن دون أنْ يتدخل هذه المرة بعصاه كما كان يحدث في الماضي.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى