
إعداد: بسنت عماد
تتصاعد الأزمة السياسية والاجتماعية في إسرائيل على خلفية مساعي الحكومة لفرض التجنيد الإجباري على اليهود المتشددين المعروفين بـ”الحريديم”، وذلك بعد عقود من الإعفاءات التي سمحت لهم بالتفرغ الكامل للدراسة الدينية.
ومع استمرار حرب غزة ونقص القوات في صفوف الجيش، تحولت القضية إلى معركة سياسية تهدد استقرار حكومة بنيامين نتنياهو الهشّة وتكشف عن عمق الانقسام داخل المجتمع الإسرائيلي.
من هم الحريديم؟
الحريديم “وتعني بالعبرية المتدينون بشدة أو المرتعدون من الله” يمثلون التيار الأكثر محافظة في اليهودية الأرثوذكسية.
يشكّلون نحو 14% من سكان إسرائيل، أي ما يقارب 1.3 مليون نسمة، يتركزون أساساً في القدس وبني براك وبعض المستوطنات الدينية المغلقة.
يتميّز الحريديم بتمسك صارم بالتوراة وبالحياة الدينية التقليدية، ويشتهر رجالهم بالقبعات السوداء والمعاطف الطويلة، فيما تلتزم نساؤهم بلباس شديد الاحتشام.
يعيشون غالباً في مجتمعات مغلقة تعتمد على الدراسة الدينية، وتعد معدلات الولادة المرتفعة بينهم سبباً رئيسياً في تضاعف أعدادهم خلال العقود الماضية.
منذ عام 1948، حصلوا على إعفاء من الخدمة العسكرية بقرار من ديفيد بن جوريون، أول رئيس وزراء لإسرائيل، بحجة أن دراسة التوراة «تحمي الدولة مثل السلاح»، غير أن تضاعف أعدادهم جعل الإعفاء مثار جدل سياسي واجتماعي واسع.
مظاهرات واشتباكات
منذ أن قضت المحكمة العليا في يونيو 2024 بإلغاء الإعفاء والبدء في تجنيد أبناء الطائفة، شهدت القدس وتل أبيب مظاهرات حاشدة نظمها الحريديم رفضاً للتجنيد.
في إحدى تلك الاحتجاجات، أشعل المتظاهرون النيران في حاويات القمامة، فيما ردت الشرطة باستخدام “مياه الظربان” ذات الرائحة الكريهة لتفريق الحشود.
ويرى كثير من أبناء الطائفة أن دراستهم للتوراة هي “طريق لحماية إسرائيل” أكثر من الخدمة العسكرية.
يقول حاييم بامبرجر، البالغ من العمر 23 عاماً: “عندما نفعل ما يريده الله، فإنه يحمينا. أُعدّ مجرماً هنا فقط لأنني أريد دراسة التوراة”.
انقسام شعبي وغضب عائلات الجنود
الخدمة العسكرية إلزامية لمعظم اليهود الإسرائيليين رجالاً ونساءً، ما أثار استياء قطاعات واسعة من المجتمع الإسرائيلي التي ترى في إعفاء الحريديم ظلماً صارخاً. يقول كثير من الاسرائيليين: «لماذا يموت أبناؤنا في الحرب بينما يبقى أبناؤهم في أمان يدرسون؟».
وتشير استطلاعات للرأي إلى أن نحو ربع شباب الحريديم قد يقبلون بالخدمة العسكرية إذا وجدوا تشجيعاً أو لم يخشوا النبذ الاجتماعي من داخل طائفتهم، في حين يبقى رفض الحاخامات الكبار حاجزاً أساسياً أمام هذا التغيير.
أزمة سياسية تهدد نتنياهو
الجدل تجاوز البعد الاجتماعي ليصل إلى قلب السياسة الإسرائيلية، فقد انسحب حزبان متشددان من ائتلاف نتنياهو في يوليو الماضي بعد فشل الحكومة في تمرير قانون يكرّس الإعفاء من التجنيد، ما يهدد بانهيار الائتلاف وإجراء انتخابات مبكرة.
وتحوّل الخلاف إلى “صداع سياسي” حقيقي لنتنياهو الذي يحاول الموازنة بين مطالب الجيش وحلفائه المتدينين، في وقت يواجه فيه تحديات أمنية غير مسبوقة على جبهات غزة ولبنان.
أصوات متباينة داخل الطائفة
رغم رفض الأغلبية، بدأ بعض الحريديم ينضمون للجيش بالفعل، فقد التحق نحو ثلاثة آلاف شاب متدين بالخدمة خلال العام الماضي، وإن ظل الرقم بعيداً عن هدف الجيش المتمثل في 4800 مجند.
ويقول الحاخام نحميا شتاينبرجر، الذي التحق بالجيش عام 2021: العيش في إسرائيل من دون خدمة عسكرية يُشعرنا بالتقصير. شعرت أن من واجبي أن أخدم.
كما برزت أصوات من طائفة “حاباد لوبافيتش” الأكثر انفتاحاً، تدعو إلى الاندماج، فيما يستمر كبار الحاخامات في معارضة أي محاولة لتغيير الوضع القائم.
ختاماً.. أزمة تجنيد الحريديم ما زالت مفتوحة على كل الاحتمالات، فهي تجمع بين بُعد ديني واجتماعي وسياسي في آن واحد.
وبينما يصرّ الحاخامات والمتدينون على الحفاظ على الإعفاء، يطالب الجيش ومعه قطاعات واسعة من المجتمع بتقاسم أعباء الخدمة.
وفي ظل الانقسام الحاد داخل إسرائيل، تبقى الحكومة أمام تحدٍّ معقد قد يحدد مستقبلها السياسي خلال الفترة المقبلة.