fbpx
مقالات

جمال طه يكتب: رسالة إلى السيد الرئيس

 

جمال طه: كاتب جيوسياسي وباحث في الأمن القومي

أول عاصمة في التاريخ للدولة المصرية القديمة، كانت مدينة ممفيس Memphis، تأسست في عهد الملك مينا موحد القطرين منذ 3200 عام قبل الميلاد؛ مملكة دلتا النيل “مصر السفلى” ومملكة الصعيد “مصر العليا” كان لكل منهما حكومته وحاكمه قبل التوحيد.

ممفيس تتمتع بمكانة مرموقة في التاريخ، فقد ظلت عاصمة مصر في عصر الدولة القديمة، التي تعاقب عليها ملوك خالدين “زوسر، سنفرو، خوفو، خفرع، ومنكاورع..”.. وظلت المدينة العاصمة الإدارية والعسكرية طوال التاريخ القديم، ومركزا إداريا رئيسيا في وقت الدولة الحديثة.

ممفيس كانت تضم أروع نماذج العمارة والفنون المصرية، بمستوى راق غير قابل للمقارنة.. لذلك أصبحت منطقتها وجبانتها الأثرية من أهم مواقع التراث العالمي التابعة لمنظمة اليونيسكو منذ عام 1979.. ومع مرور الأزمنة والعصور تغيرت عاصمة مصر الموحدة تسع مرات؛ من “ممفيس” الى “طيبة”، “تل العمارنة”، “الإسكندرية”، “الفسطاط”، وأخيرا في عهد الدولة الحديثة “القاهرة الفاطمية”، ثم “القاهرة الخديوية”.

القاهرة شهدت عبر الحقب الزمنية موجات متعاقبة من الهجرة الداخلية والخارجية، التي تستهدف الاستفادة من المرافق والخدمات وفرص العمل التي لا تتوافر في معظم المحافظات، حتى بلغ عدد سكان القاهرة الكبرى وحدها 25.5 مليون نسمة عام 2022، بخلاف من يترددون عليها يوميا للعمل أو لإنهاء معاملات، مما شكل اكتظاظا سكانيا لا نظير له، أدى الى تدهور أوضاع كافة المرافق نتيجة تحملها ضغوطا فوق طاقتها، حتى أصبحت بيئة غير جاذبة للسياحة أو الاستثمار، ما فرض البحث عن بديل أكثر ملائمة لثورة الاتصالات، وأكثر تعبيرا عن روح العصر.

العاصمة الإدارية الجديدة، مشروع مدينة ذكية متكاملة الخدمات، تم الإعلان عنها في «مؤتمر دعم وتنمية الاقتصاد المصري» بتاريخ 13 مارس 2015، قامت فلسفة انشائها على أساس أنها أحد المشروعات المحفزة لجذب الاستثمار المصري والعربي والأجنبي، وتأسيس واجهة حضارية عصرية لمصر، دون تحميل ميزانية الدولة أية أعباء مادية، حيث يتم تمويل كافة مرافقها وخدماتها من عائدات بيع الأراضي، أما المشاريع داخلها فهي مسئولية المستثمرين والمطورين العقاريين، وقد تم التوسع الفعلي في هذا المبدأ الى حد ان المقرات التي ستشغلها الحكومة وجهات الدولة الرسمية، ستدخلها بنظام عقود الإيجار..

المشروع يعتبر أضخم المشروعات القومية في مصر والشرق الأوسط، حيث تمتد على مساحة 700 ألف كم مربع، مما يعادل ثلاثة أضعاف مساحة واشنطن، وسبعة أضعاف مساحة باريس.

تكلفة إنشاء العاصمة الإدارية الجديدة تبلغ نحو 60 مليار دولار، أي ما يعادل قرابة تريليون جنيه مصري، وقد تم تصميمها لتكون مركز القوة الاقتصادية القومية، وتم تزويدها ببنية أساسية لتكون مدينة مستدامة، تعمل بأحدث التقنيات، التي تستند الى وجود مركز قومي متطور للاتصالات وقاعدة بيانات موحدة للدولة، تخدمهما شبكة انترنت بالألياف الضوئية والقمر الصناعي، تصل فيها السرعات إلى تيرا بايت في الثانية.. وقد تم انشاء مبنى لمؤسسة الرئاسة ومقرا للقيادة الاستراتيجية للدولة «أوكتاجون»، ومقرات رئيسية للحكومة، تضم مبنى لرئاسة مجلس الوزراء، و10 مجمعات وزارية، تتسع لعدد 34 وزارة، بالإضافة الى مبنى للبرلمان، ومقرات لشركات القطاع العام والخاص، وحي السفارات الأجنبية، بالإضافة الى تشييد مجموعة من الأحياء العمرانية، بتصميمات عصرية متميزة.
وقد تم انشاء مدينة العلوم والفنون تتضمن متحف يعرض لتطور عاصمة مصر التاريخية عبر تسعة عصور من ممفيس الى القاهرة، كما تتضمن مكتبة عامة ودار أوبرا ومركزا للمؤتمرات ومدينة للمعارض، ومدينة طبية وأخرى رياضية، أما حي المال والأعمال الذى يمثل 30% من مساحة المدينة، فهو يضم أكبر ناطحة سحاب في إفريقيا بارتفاع 345 متر، و12 مجمعاً تجارياً، وخمسة مباني سكنية وفندقين، وهناك حديقة مركزية هي الأكبر في الشرق الأوسط، على مساحة تتجاوز 1000 فدان، طولها قرابة 10 كيلومتر، ما يجعلها مدينة خضراء يبلغ نصيب الفرد فيها من المسطحات الخضراء والمفتوحة وفقا للمعايير العالمية لجودة الحياة قرابة 15 متر2، ويربط بين أحياء المدينة السكنية والجامعات المقامة على أرضها “النهر الأخضر”، الذي يحاكي نهر النيل في امتداده، ويصل طوله إلى 35 كيلو مترا.. وقد تم ربط كافة أحيائها بشبكة ممرات للمشاة والدراجات، التي تشغل نحو 40% من إجمالي شبكة الطرق بالمدينة.

والمخطط ان يتم طرح مشروعات المدينة في البورصة كأصول لن تقل عن 4 تريليون جنيه، مما يعطى زخما للاقتصاد المصري.
ممفيس القديمة كان أبرز مبانيها معبد بتاح الكبير، المخصص لعبادة الإله بتاح، تعبيرا عن الايمان بالتوحيد المتأصل في المصري القديم، حتى قبل أن تبعث الرسالات السماوية، لذلك كان من أبرز مباني العاصمة الإدارية الجديدة أكبر مسجد في مصر وأفريقيا «الفتاح العليم» الذي يتسع لنحو 17 ألف مصلي، وأكبر كنيسة في الشرق الأوسط «كاتدرائية ميلاد المسيح»، وتتسع لنحو 8200 فرد، وذلك بنفس الدلالات القديمة، وان أضيفت اليها حرية العقيدة والتسامح وقبول الآخر.

آليات العمل الحكومي بالمدينة تستهدف تقديم خدمات مميزة للمواطنين، وكل الخدمات تعتمد على التعامل مع شباك واحد تبدأ منه الخدمة وتنتهي، بغض النظر عن عدد الجهات الرسمية المشاركة في تقديمها، ولذلك تم اختيار الموظفين المتميزين، وإعدادهم لذلك، وتوفير وسائل الإقامة المناسبة لهم، حيث تم انجاز اللمسات الأخيرة للحي السكني الذي يتسع لـ 50 ألف موظف وعامل، هم جملة العاملين بالحي الحكومي الجديد، وقد أقيم بمدينة بدر الملاصقة للعاصمة الإدارية الجديدة، وذلك بخلاف 25 الف وحدة تبنيها وزارة الإسكان في الحى السكنى بالمدينة لمن يرغب، أما الشق السكنى الذى ينفذه القطاع الخاص فهو يشغل 30% من مساحة المدينة وينتج 1,5 مليون وحدة سكنية متميزة، وقد تم تغطية 70% من أسطح المباني بوحدات الطاقة الشمسية ليتم الاعتماد على مصادر للطاقة لا تسبب تلوثا للبيئة.

المدينة تقع في مركز متوسط «في قلب مصر» ما يجعلها قريبة من أهم الأماكن الاستراتيجية، حيث تقع شرق القاهرة، بين طريقي القاهرة/ السويس، والقاهرة/ العين السخنة، وهي على بُعد 60 كم من وسط القاهرة، و60 كم أيضاً عن مدن السويس والعين السخنة، بحيث بات طريق العاصمة الإدارية الآن هو طريق السويس والدائري الأوسطي، وتم مد شبكة محاور للطرق ومواصلات عصرية تربطها بكل مناطق الجمهورية، خاصة القطار الكهربائي السريع والمونوريل.
***
وأخيرا، فإن الانتقال للمدينة تأخر بسبب انتشار وباء فايروس كورونا، بتأثيراته على نشاط قطاع التشييد والبناء، ولكن مؤسسات الدولة تعتزم الانتقال النهائي لمباشرة أعمالها الكاملة من هناك قبل نهاية العام 2023، غير ان الأمر الذى ينبغي حسمه وفورا، هو إعادة تسمية العاصمة الإدارية الجديدة، فهل بعد انتقال كل مؤسسات الدولة السيادية والحكومية، ومقرات التمثيل الدبلوماسي للدول والمنظمات الدولية والإقليمية، الى ذلك الموقع العصري المتطور الذى يقع في موضع أكثر استراتيجية من القاهرة، وأجدر بمواصفات عاصمة سياسية للدولة، فهل يمكن ان تستمر القاهرة الحزينة المنهكة الخالية من أي وجود رسمي للدولة عاصمة لها ؟!!، ذلك أمرا محسوما، لا يحتمل الجدل، ولا يتطلب إقناع، وعلينا الانتقال فورا للإجراءات العملية.

أول ما يتطلبه الأمر هو الاتفاق على إعادة تسمية العاصمة الإدارية الجديدة، فهذا الاسم ربما كان يناسب مرحلة البناء والتشييد، لكنه بالتأكيد لا يناسب مرحلة الإشغال والتشغيل، بعد ان انتقلت اليها كافة مؤسسات الدولة، تاركة القاهرة تتعافى، وتنتظر إعادة تخطيط.. الدولة المصرية الموحدة أول ما عرفت مفهوم العاصمة كانت «ممفيس»، التي ظلت حية وفعالة كمقر ادارى في الدولة الحديثة عندما تم نقل العاصمة..

«ممفيس» ليست تراثا أثريا، بقدر ما هو ذاكرة وطنية، تعبر عن وحدة هذا الوطن، ورصيده من القوة والتأثير.. «ممفيس» حالة وطنية لا يمكن ان نتدنى بها لتصبح اسما لمطار داخل القاهرة، ولا لشركة عالمية للأدوية.. «ممفيس» كانت عاصمة مصر، وينبغي ان تظل كذلك.

لم يسبق إلى ان وجهت أية رسائل لا لرئيس الدولة ولا للحكومة ولا للبرلمان.. هكذا تعودت ان أكتب، وليأخذ منه من يقرأ، ما يراه نافعا من عدمه، لكنني هذه المرة أوجه ندائي للسيد رئيس الجمهورية، وأذكره بأن من كان يشيد نفقا متواضعا في العقود الماضية كان يضع عليه اسمه، رغم إهمال البنية الأساسية بصورة لولا ما فعلته بشأنها من إصلاح لتحولت الدولة الى جراج كبير، لا أطلب منك وضع اسمك على العاصمة الإدارية الجديدة، فسوف تضعه كتب التاريخ، التي لا تجامل، لكنني أدعوك لاتخاذ إجراءات فورية لدعوة الجهات المعنية لإجراء تعديل دستوري يسمح بنقل عاصمة مصر فورا من «القاهرة» الى «ممفيس».

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى