سلايدرمقالات

شحاتة زكريا يكتب: الطاقة النظيفة.. ثورة حقيقية أم سباق مصالح كبرى؟

لم يعد الحديث عن الطاقة النظيفة رفاهية فكرية أو نزعة مثالية يرفعها نشطاء البيئة فحسب بل أصبح واقعا يفرض نفسه على مائدة الاقتصاد والسياسة معا. فما بين الدعوات للحد من الانبعاثات والسباق المحموم على مصادر بديلة من الشمس والرياح والهيدروجين الأخضر يبدو أن العالم يقف على أعتاب ثورة جديدة ثورة لا تقل عمقا عن الثورة الصناعية أو الرقمية. لكن السؤال الذي يفرض نفسه: هل نحن بصدد ثورة إنسانية حقيقية لإنقاذ الكوكب ، أم مجرد سباق مصالح كبرى تديره القوى الاقتصادية العظمى؟

الحقيقة أن صورة المشهد تحمل الوجهين معا. فمن ناحية لم يعد بالإمكان تجاهل الخطر الذي يهدد الحياة على الأرض. التغير المناخي لم يعد تنبؤًا بعيدا بل واقعا ملموسا في ارتفاع درجات الحرارة وذوبان الجليد وتزايد الكوارث الطبيعية. ومن ناحية أخرى فإن التحول إلى الطاقة النظيفة يفتح شهية الشركات الكبرى والدول الغنية على سوق جديد بمليارات الدولارات حيث تتحول “البيئة” إلى ميدان استثمار وصراع نفوذ.

لكن إذا تجاوزنا هذه الثنائية الضيقة سنجد أن جوهر القضية أكبر وأعمق: نحن أمام لحظة فارقة في تاريخ البشرية لحظة تُعيد تعريف علاقة الإنسان بالطبيعة ، وتفتح أمام الدول النامية فرصا هائلة للانطلاق نحو المستقبل إذا أحسنت استغلالها.

الطاقة الشمسية في صحرائنا العربية ليست مجرد ألواح تولد كهرباء بل مشروع حياة يعيد رسم الخريطة الاقتصادية للمنطقة. والرياح على سواحل البحر الأحمر والمتوسط ليست مجرد نسيم عابر ، بل مصدر قوة قادر على تشغيل مصانع ومدن كاملة. أما الهيدروجين الأخضر ، فهو المرشح لأن يكون “نفط القرن الحادي والعشرين” حيث تتنافس عليه العواصم من برلين إلى طوكيو ومن القاهرة إلى الرياض.

المثير أن التحول للطاقة النظيفة لا يعني فقط حماية البيئة، بل يعني أيضا بناء اقتصاد أكثر عدلًا واستدامة. فبينما كانت مصادر الطاقة التقليدية تتركز في أيدي قليلة من الدول فإن الشمس والرياح ملك للجميع. إنها موارد لا تحتكرها جغرافيا ولا تتحكم فيها حدود. وهذا بحد ذاته يفتح الباب أمام نظام عالمي جديد أكثر توازنا ، إذا أُحسن التعامل معه.

في مصر على سبيل المثال لم يعد الحديث عن الطاقة الجديدة مجرد خطط على الورق. مشروعات عملاقة مثل “بنبان” للطاقة الشمسية في أسوان ، أو التوسع في مشروعات الهيدروجين الأخضر ، تكشف أن الدولة وضعت قدمها على الطريق الصحيح. هذه المشروعات ليست مجرد كهرباء نظيفة بل فرص عمل ونقل تكنولوجيا وبوابة لتصدير الطاقة إلى أوروبا وأفريقيا. إنها استثمار في المستقبل يليق بمكانة مصر ودورها الإقليمي.

قد يسأل البعض: هل يمكن أن تتحول هذه الثورة إلى “فقاعة” اقتصادية كما حدث في تجارب سابقة؟ الإجابة أن الفارق هنا أن الحاجة إلى الطاقة النظيفة ليست خيارا بل ضرورة وجودية. فالعالم كله من واشنطن إلى بكين يدرك أن كلفة الاعتماد على الوقود الأحفوري لم تعد محتملة ، لا بيئيًا ولا اقتصاديا. ومن ثم فإن السباق لن يتوقف لكنه سيعيد تشكيل التحالفات والمعادلات الدولية.

يبقى السؤال الأهم: كيف نستفيد نحن؟ وهنا تكمن الفرصة الذهبية. إذا أحسنت دولنا التخطيط فإن الطاقة النظيفة يمكن أن تتحول من مجرد مشروع بيئي إلى مشروع حضاري. مشروع يربط بين حماية البيئة وتحقيق التنمية بين احترام الأرض وبناء الإنسان. إن الاستثمار في هذا المجال ليس مجرد استثمار في الكهرباء ، بل استثمار في المستقبل ذاته.

في النهاية قد يختلف الناس حول ما إذا كانت الطاقة النظيفة ثورة إنسانية أو سباق مصالح ، لكن المؤكد أنها ستظل العنوان الأبرز للقرن الحادي والعشرين. فهي لا تعني فقط إنقاذ الكوكب من الاحتباس الحراري ، بل تعني أيضا إعادة توزيع موازين القوة والثروة. والفرصة أمامنا الآن: أن نكون جزءا من هذه الثورة لا مجرد متفرجين عليها.

فالتاريخ لن يسألنا إن كانت الطاقة النظيفة ثورة أم سباقا، بل سيسألنا: هل كنّا من الرابحين فيها أم من الخاسرين؟

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى