
في عالم يتصارع فيه الجميع على النفوذ والمكانة والموارد تبدو الجغرافيا أكثر من مجرد تضاريس أو خرائط إنها رأس مال جديد لمن يُجيد قراءتها. ومصر – كما كانت دوما – تجلس على مفترق طرق الجغرافيا والتاريخ ، لكنها في السنوات الأخيرة لم تكتف بجني ما تمنحه لها الطبيعة بل قررت أن تُوظّف موقعها ليكون أحد أعمدة نهضتها الحديثة.
لم تعد قناة السويس مجرد ممرّ ملاحي عتيق بل تحوّلت إلى قلب مشروع استراتيجي ضخم يُعيد صياغة دور مصر في سلاسل الإمداد العالمية. توسعة القناة وتطوير موانئ البحرين الأحمر والمتوسط ، وربطها بمناطق لوجستية وصناعية حديثة لم يكن مجرد تطوير في البنية التحتية ، بل كان رسالة واضحة: مصر عادت لاعبا محوريا في خريطة التجارة الدولية.
وهذا الرهان على الجغرافيا الاقتصادية لا يقف عند حدود البحر أو البر بل يمتد إلى مفهوم أعمق: تحويل موقع الدولة إلى منصة لنقل الطاقة وممر للأسواق ، ومركز لتبادل النفوذ لا السلع فقط. ولهذا ظهرت مشروعات الربط الكهربائي مع الدول المجاورة واتفاقات خطوط الغاز العابرة وتموضع مصر في منتدى غاز شرق المتوسط كمركز إقليمي لا مجرد منتج أو مستورد.
لقد أدركت الدولة المصرية أن الثروة الحقيقية ليست فقط في باطن الأرض ، بل في موقعها على سطح الأرض. وأن المستقبل لن يكون فقط للأقوى اقتصاديا بل لمن يستطيع أن يُصبح “حلقة الوصل” بين المتنافسين. ولهذا نجد أن مصر لا تلعب في خانة واحدة؛ بل تبني علاقات توازن دقيقة مع أوروبا وتنفتح على آسيا وتوطّد شراكتها مع إفريقيا وتبني شبكة مصالح مع الخليج.
وربما كانت الأزمة العالمية الأخيرة في سلاسل الإمداد – من جائحة كورونا إلى الحرب الروسية الأوكرانية – هي الاختبار الحقيقي لهذا الرهان المصري. ففي الوقت الذي تعطّلت فيه ممرات بحرية وارتبكت أسواق واهتزت طرق نقل استطاعت مصر أن تُقدّم نفسها كنقطة عبور موثوقة ومستقرة في عالم مضطرب. ولعل الارتفاع المتكرر في إيرادات قناة السويس هو شاهد اقتصادي مباشر على نجاح هذا التموضع.
لكن الرهان الذكي لا يكون كاملا إلا إذا وُجّه لخدمة الداخل. وهنا تظهر أهمية ما يتم من تطوير متكامل في البنية التحتية الداخلية من شبكة طرق قومية هائلة ، إلى محاور ربط بين الموانئ والمناطق الصناعية ، إلى المدن الجديدة التي تُبنى ليس فقط لرفع مستوى المعيشة بل لتكون جاهزة لاستقبال الاستثمار وتوطين الصناعة.
المدن الذكية مثل العاصمة الإدارية الجديدة ومدينة العلمين والمنطقة الاقتصادية في شرق بورسعيد، لم تعد مشاريع واجهات كما يظن البعض بل هي منصات انطلاق تُرسم بعناية لتستقبل عالما جديدا تُحركه التكنولوجيا واللوجستيات والشبكات الذكية لا فقط الآلات والمصانع.
وهنا تتجلّى رؤية الدولة في الانتقال من دولة “عبور” إلى دولة “محور”. من مجرد ممر تُنقل عبره السلع إلى مركز تُصنع فيه القيمة ويُعاد فيه تشكيل المنتجات والسياسات على حد سواء.
أما إفريقيا – الجار الذي طالما أهملناه – فقد عادت إلى صدارة الأولويات. فتحقيق التكامل مع دول القارة لم يعد ترفًا سياسيا بل خيارا استراتيجيا. ومصر تدرك جيدا أن نهضتها لن تكتمل إلا بدور فاعل داخل السوق الإفريقية سواء عبر الطرق البرية العابرة للحدود أو عبر الربط الكهربائي ، أو من خلال التبادل التجاري والاستثماري.
إن ما يُحرك الدولة المصرية اليوم ليس فقط وعيها بموقعها بل إدراكها لمتغيرات العالم. نحن أمام واقع دولي جديد تعاد فيه كتابة قواعد الاقتصاد العالمي ، وتُخلَط فيه الأوراق بين الشرق والغرب وتُختبر فيه قدرة الدول على الاستفادة من كل عناصر القوة الناعمة والصلبة. ومصر – بفضل استقرارها السياسي وخبرتها التاريخية – تضع قدمها بثقة على هذا المسار الجديد.
قد لا تكون التحديات قليلة وقد لا يكون الطريق مفروشا بالورود لكن المؤكد أن هناك عقلا يخطط ، ويدا تبني ، ورؤية تراهن على الجغرافيا لا كقدر بل كفرصة.
ولعلّ الدرس الأهم في كل ذلك أن من يُجيد الاستثمار في موقعه يُعيد تعريف مكانته. ومصر اليوم تُعيد تعريف نفسها كقوة إقليمية ذكية لا تصرخ ولا تُناور ، بل تبني بهدوء وتُراكم النفوذ عبر شبكة مصالح تُحترم لا تُفرض.