
إعداد: بسنت عماد
يُعد معبد دندرة بمحافظة قنا من أعظم المعابد المصرية التي صمدت على مر العصور، إذ يجسد عظمة العمارة والفنون والنقوش الفلكية والدينية في مصر القديمة.
يتميز المعبد بموقعه الفريد على الضفة الغربية لنهر النيل، ويضم بين جدرانه نقوشًا تكشف أسرار المصريين القدماء عن الكون والنجوم والحياة الآخرة، ويُعد من أهم المزارات السياحية والأثرية في الصعيد.
ارتبط دندرة بالإلهة حتحور، إلهة الحب والجمال والموسيقى، لذلك كان المعبد مركزًا للاحتفالات والطقوس الكبرى في العصور القديمة، وما زال حتى اليوم شاهدًا على دقة العلم المصري الذي حاول الغزاة سرقته عبر العصور.
ويأتي هذا التقرير ضمن سلسلة ”الأهرامات لم تكن الاستثناء الوحيد”، التي تهدف إلى كشف أن مصر مليئة بآثار وأعاجيب لا تقل أهمية عن الأهرامات، وأن حضارتها العظيمة لا تختصر في أهرامات الجيزة وحدها.

سرقة القبة السماوية
تُعتبر سرقة “القبة السماوية” من معبد دندرة من أشهر السرقات غير المشروعة في تاريخ الآثار المصرية.
السارق الفرنسي سباستيان لويس سولينيه ووكيله جان بابتيست ليلوريان لم يكتفيا بمحاولة اقتلاع هذا الكنز الأثري، بل كادا أن يفجّرا المعبد بالديناميت لنزعه.
خاض ليلوريان مغامرة محفوفة بالمخاطر في البحر المتوسط والإسكندرية هربًا من القنصل الإنجليزي الذي حاول إيقافه، لكنه نجح في تهريب القبة إلى فرنسا.
ماذا تمثل القبة السماوية؟
القبة السماوية في معبد دندرة هي لوحة فلكية نقش فيها المصري القديم خريطة السماء بأبراجها وكواكبها، إيمانًا منه بأن السماء والأرض مترابطتان.
نُحتت هذه القبة بدقة على حجرين ضخمين في سقف غرفة داخل مبنى صغير ملحق بالمعبد، وتُعد من أهم الأدلة على أن المصريين القدماء هم أول من اخترع علم الفلك ووضعوا أسسه.
ومع مرور الزمن، سُرق هذا العلم وتم تجاهل أصله ونُسب إلى علماء آخرين، بينما ما زالت أسراره محفورة هنا في نقوش دندرة، تشهد أن علم الفلك اختراع مصري خالص.

محاولة تفجير المعبد
بعد أن اكتُشفت القبة السماوية خلال الحملة الفرنسية على مصر، اعتبر الفرنسيون هذا الأثر جزءًا من إرثهم القومي.
بعد عقود من الحملة، عاد ليلوريان عام 1820 إلى الإسكندرية موهمًا القنصل الإنجليزي بأنه ينوي التنقيب في الأقصر، ليعود سرًا إلى دندرة ويشرع في اقتلاع القبة من سقفها باستخدام البارود والأزاميل والمناشير.
ورغم خطورة استخدام المتفجرات، لم ينهَر السقف، وتمكن السارق من إنزال القبة بحيلة روافع إلى مركب في النيل، متجهًا بها شمالًا إلى الإسكندرية ومنها إلى فرنسا، وسط مطاردة القنصل البريطاني هنري سولت الذي فشل في استعادتها.

استقبالها في باريس
عندما وصلت القبة السماوية إلى باريس، استقبلها الآلاف في موكب مهيب، وتجمهر الناس حولها منبهرين بفن المصريين القدماء.
ربِح السارق ووكيله من ورائها 150 ألف فرانك من الملك لويس الثامن عشر، بينما ظلت مصر بلا أثرها الثمين.

الحفائر والاكتشافات اللاحقة
بعد سرقتها توالت الحفائر بمعبد دندرة: بدأ فلندرز بيتري أعماله في جبانة دندرة عام 1898، ثم فيشر بين 1916 و1918، وتوالت الاكتشافات حتى منتصف القرن العشرين، وكان من أبرزها اكتشاف أحمد فخري جبانة كاملة تضم حضارات البداري ونقادة والدولة القديمة، مما أثبت الأهمية التاريخية الهائلة لهذا الموقع.

مطالبات الاسترداد
اليوم تُعرض القبة السماوية بمتحف اللوفر في فرنسا، بينما يطالب علماء الآثار وعلى رأسهم د. زاهي حواس بعودتها إلى مصر مع حجر رشيد وغيره من الكنوز التي خرجت بطرق غير شرعية.
وأُطلقت حملات توقيع دولية لهذا الغرض، مثل الوثيقة المنشورة عبر موقعه الرسمي” Change.org “ليشارك العالم كله في المطالبة بحق مصر في تراثها.

في النهاية، يبقى معبد دندرة رمزًا خالدًا لعبقرية المصري القديم وإبداعه الذي لا يزال يبهر العالم حتى يومنا هذا.
ومع ذلك، فإن تاريخ دندرة،كغيره من كنوز مصر، يشهد أيضًا على صفحات مؤلمة من سرقة آثارنا وتهريبها إلى الخارج، حيث تتعمد دول ومتاحف أجنبية طمس اسم مصر ونسب هذا التراث العلمي والفني لنفسها، لتغفل عن قصد الإشارة إلى أصله الحقيقي.
إن حماية آثارنا والدفاع عن نسبها هو حقنا وواجبنا جميعًا، حتى تظل الحضارة المصرية مصدر إلهام وفخر وأصالة، تروي للعالم قصة أول من خطَّ حرفًا ورسم نجمة وبنى معبدًا يليق بخلود السماء.



