شحاتة زكريا يكتب: زيارة لا تشبه سابقاتها

ليست كل الزيارات الرسمية تُقاس بعدد الصور الملتقطة أو البيانات المشتركة. ثمة جولات تحمل بين طياتها ما هو أعمق من البروتوكول وتكتب بلغة المصالح لا المجاملات. هذا هو السياق الحقيقي لجولة الرئيس عبد الفتاح السيسي إلى الخليج والتي شملت قطر والكويت. ليست مجرد وقوف أمام عدسات الكاميرا بل وقفة جادة أمام تحولات كبرى تشهدها المنطقة وصياغة مبكرة لمرحلة ما بعد الأزمات.
ففي الوقت الذي تتعدد فيه الطموحات وتتعقد فيه التحديات تعيد القاهرة ضبط البوصلة. لم تعد علاقاتها مع دول الخليج مجرد مسألة دعم أو مساعدات بل شراكة ندية، تقوم على إدراك مشترك أن الاستقرار لم يعد خيارا ، بل ضرورة وأن التكامل لم يعد ترفا بل مسار إنقاذ جماعي. وما جرى في هذه الجولة لم يكن إعلان نوايا ، بل ترجمة عملية لما يمكن أن تفعله السياسة حين تخلع عباءة الحذر وتلبس رداء الفعل.
في خلفية الزيارة صوت صامت لم يُنطق لكنه كان حاضرا في كل لقاء: الحاجة إلى جدار عربي متماسك في مواجهة العواصف القادمة. لا حديث عن الأزمات بمعزل عن مشروعات التنمية، ولا أمن بدون اقتصاد، ولا تعاون بدون إرادة. وهنا تحديدا، تظهر القاهرة كطرف لا يبحث عن مصلحة ضيقة بل يسعى لتأسيس منطق مختلف في العلاقات الإقليمية منطق لا يقوم على رد الفعل ، بل على استباق التحولات.
وفي قلب كل ذلك تقف فلسطين كقضية محورية ليست شعارا بل اختبارا للجدية. الحديث عن إعادة الإعمار وعن خطة عربية متكاملة ليس مجرد كلام في الهواء بل إشارة إلى محاولة عربية لاستعادة زمام المبادرة، بعدما ظلت المبادرات الحقيقية تأتي من خارج الإقليم. من هنا كان مهما أن تأتي المواقف متقاربة وأن يكون هناك شبه إجماع على أن الحلول لا يمكن أن تُفرض من الخارج ولا يجب أن تظل رهينة للاعتبارات الدولية المتقلبة.
لكن المسألة أبعد من غزة وأبعد من الاستثمار. نحن أمام مرحلة تُرسم فيها خرائط النفوذ ، وتُعاد فيها قراءة التحالفات. ووسط كل ذلك تطرح القاهرة نفسها كجسر لا كجدار كحلقة وصل لا طرف في محور. هذا التوازن هو رأس مالها الحقيقي وهو ما يجعل صوتها مسموعا حين تتحدث عن الأمن العربي أو عن ضرورة تنسيق المواقف قبل أن تتحول الخلافات إلى أزمات.
ولأن العالم لا ينتظر فإن ما جرى في هذه الجولة قد يكون بداية لنمط جديد من التفاعل العربي–العربي نمط لا يستند فقط إلى العلاقات الثنائية بل إلى تفكير جماعي يتجاوز الخلافات التكتيكية إلى استراتيجية شاملة. وربما آن الأوان لإخراج فكرة “المجلس العربي الاستراتيجي” من الأدراج، وتحويلها إلى منصة دائمة للتشاور وصناعة القرار بدلا من ردود الأفعال المتأخرة التي لم تحمِ أحدا يوم احتدمت الأزمات.
الزيارة الخليجية ليست خاتمة لمرحلة بل مفتاح لباب واسع من الاحتمالات. وإذا كانت العواصم تبحث عن مستقبل أكثر أمنا وازدهارا فإن ما جرى في الدوحة والكويت ليس إلا بداية حديث جاد عن الغد حديث لا مكان فيه للمجاملات ولا وقت فيه لتأجيل القرارات الصعبة.