الأخبارتقارير

شحاتة زكريا يكتب: منطق الدولة.. فوق منطق اللحظة

حين تتصادم الأزمات وتعلو الأصوات، وتتشابك الرؤى، لا يكون المنقذ هو صخب اللحظة، بل عقل الدولة.
فالدولة ليست ردّ فعل بل استجابة محسوبة ليست فقط مجموع سلطاتها بل بنيتها الذهنية ومنطقها المستقل الذى لا يُختزل فى انفعال وقتى أو مزاج عام مهما كان حادًا.

منطق الدولة مختلف يعلو على الفورات والتقلبات لأن حساباته لا تُبنى على المكاسب العاجلة، بل على المصلحة الوطنية الممتدة. هو منطق يزن كل خطوة بموازين دقيقة تتداخل فيها السياسة مع الأمن، والاقتصاد مع المجتمع والحاضر مع المستقبل. لأن الدولة- إن أردنا لها أن تصمد- لا تكتفى بالحلول السهلة أو الشعارات العابرة، بل تشتبك مع الواقع من موقع الإدارة الرشيدة لا الخطابة المرتعشة.

فى لحظات التشويش يعلو منطق اللحظة حيث يُطلب من الدولة أن تتحرك بسرعة، أن تُرضى الغضب العام أن ترد على الأصوات أن تنحنى أمام الموجة. لكن منطق الدولة لا يعمل بهذه الطريقة. لأنه لا يصنع قراراته لترضى أحدا بل ليصنع توازنا يصعب على الغضب أو الرغبة وحدها إدراكه.

ولذلك فإن نجاح الدول لا يُقاس فقط بمدى استجابتها للضغوط الآنية بل بقدرتها على إدارة تلك الضغوط دون أن تفقد عقلها أو بوصلتها. والدولة المصرية فى السنوات الأخيرة قدمت أكثر من تجربة تؤكد هذا المعنى.

فى لحظة الانفجار الاجتماعى بعد 2011 ساد منطق اللحظة وتم اختطاف المجال العام تحت شعارات لا تخلو من الوجاهة ولكنها كانت محمَّلة بمراهقة سياسية ، وأحيانا بأجندات مموهة. لم يكن الصوت الأعلى فى تلك اللحظة هو صوت الدولة بل صوت الموجة. وكانت النتيجة واضحة: فوضى انهيار مؤسسات ، وتآكل الدولة من الداخل. ولم يكن الخروج من هذا المأزق ممكنا إلا باستعادة منطق الدولة الذى بدأ يعود مع 2013 واستكمل ترسيخه خلال السنوات التالية.

الإصلاح الاقتصادى على سبيل المثال، لم يكن قرارا شعبويا يُرضى اللحظة. بل كان قرارا مؤلما، عقلانيا، طويل النظر، دفع ثمنه الجميع، لكنه كان حتميا.
وكانت الدولة واضحة منذ البداية: لن يكون هناك إصلاح حقيقى دون أن نتقشف قليلا اليوم لنحيا غدا. وربما كان الرهان الأكبر ليس فقط على جدوى الإجراءات بل على وعى الشعب، الذى أثبت أنه أكبر من أى تبسيط أو تحريض.

منطق الدولة أيضا بدا جليا فى التعامل مع ملفات كبرى كالأمن القومى والسياسة الخارجية وإعادة بناء البنية التحتية وتوجيه الاستثمارات نحو مشروعات كبرى رغم الضغوط. لم تنساق الدولة وراء موجات النقد اللحظى، بل احتفظت بمنطقها: نحن لا نُنجز للماضى ولا لإرضاء الأصوات بل نبنى لمستقبل لا يراه الجميع الآن.

صحيح أن منطق الدولة قد يبدو أبطأ أحيانا من رغبة المواطن لكنه أصدق. وقد يبدو صامتًا أمام الضجيج، لكنه أعمق. وهو لا يعمل بمنطق الشعارات بل بمنطق المؤسسات والتراكم، والخبرة، وتقدير العواقب. والذكى هو من يُدرك الفارق بين منطقين: منطق اللحظة الذى يريد كل شىء الآن ومنطق الدولة الذى يسعى إلى كل شىء فى وقته بما يضمن استدامته.

وما تحتاجه مصر اليوم ليس فقط مشروعات أو سياسات بل تعزيز هذا المنطق: أن نفكر كدولة ونتصرف كدولة ونُقيّم الأمور من موقع الدولة. لا من موقع اللحظة المتوترة ولا من تحت ضغط التريند ولا من داخل المزاج العام الذى يتقلب.

إن مصر التى مرت من عنق الزجاجة وبنت فى عشر سنوات ما لم يُبْنَ فى عقود تستحق أن نحمى هذه المكتسبات بمنطق أعلى. منطق لا يخجل من الصمت حين يكون الكلام ضررًا ولا يخشى التأخير حين يكون التسرع كارثة ، ولا يطارد الإعجاب العابر بل يسير نحو ما يبقى ويصلح.

منطق الدولة هو بوابة العبور الحقيقى من “البلد الذى كان يتلقى الضربات” إلى “الدولة التى تصنع إيقاعها الخاص”. ومن لا يفهم الفرق.. لا يفهم الدولة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى