
تتضمن خطة “التهجير الطوعي” الحكومية الإسرائيلية التي أشرنا إليها سابقًا، إجراء مسح شامل لمجموعة الدول الراغبة أو التي يُمكنها استيعاب أعداد من الفلسطينيين سُكان غزة، وإجراء محادثات في هذا الشأن برعاية الولايات المتحدة الأمريكية والمجتمع الدولي، ومن ثمّ إضفاء الشرعية على الخطة من خلال التعاون على المستوى السياسي والقانوني الدولي؛ حتى تخرج الأحداث كما لو كانت – مغادرة طوعية من منطقة غير مؤهلة للمعيشة من وجهة نظر سُكانها؛ ولذلك ستسعى المنظومة الأمنية الإسرائيلية على إجراء مسح شامل لتحديد أعداد ومواقع هؤلاء الراغبين في الهجرة والبلاد التي يرغبون في الهجرة إليها. وبعد استكمال مرحلة التسجيل والتفتيش والفحص سيتم إنشاء منظومة نقل خاصة مناسبة لنقل مئات الآلاف من الأشخاص إلى مناطق الخروج من غزة. وبناء استراتيجية ونظام لوجستي متكاملين لنقل سكان القطاع على ثلاث محاور: جوي لنقلهم عبر مطار رامون، وبحرية عبر ميناء أشدود، وبرية عبر محور كرم أبو سالم وتسهيل هذا (الإخلاء) بشكل يومي وبأعداد كبيرة- إلى وجهات متعددة.
العقبات التي قد تقف أمام تنفيذ هذه الخطة
يرى صناع القرار في إسرائيل أن أغلب سكان قطاع غزة يعارض بشدة فكرة التهجير القسري لإخلاء القطاع، ولكن في الوقت نفسه بمجرد أن يتمكنوا من مغادرة “مساحة الموت” هذه سوف يقفزون فوق الأسوار ويهربون من الحرب التي لا نهاية لها مع إسرائيل، وتعتبر أن رفض سُكان غزة على طرح الرئيس الأمريكي يحمل في طياته تناقض كبير، لأن الواضح للجميع أنهم بالفعل يريدون مغادرة المكان بما فيهم مؤيدو حماس، وبمجرد أن تتوفر إمكانية الخروج وتزال الحواجز، فإن حشودًا منهم ستخرج بكل بساطة ولن يستطيع أحد منع ذلك، رغم التصريحات المتشددة والصارخة- الرافضة التي قد تصدر عن الدول العربية المختلفة.
وتداول الإعلام العبري ما نشرته صحيفة “وول ستريت جورنال” عن إجابات عينة من سكان غزة الذين سئلوا عن موقفهم من مبادرة “ترامب” لإخلاء قطاع غزة من جميع سكانه، وكان القاسم المشترك بينهم هو الافتقار الدعم الأيديولوجي لهذا الطرح، ولكن في الوقت نفسه هناك تفهُم من قِبلهم بأن الخروج من القطاع يعتبر الخطوة الأكثر جدوى بالنسبة لهم علي المستوى العملي. وبحسب التقرير الذي نقلته الصحف العبرية فإن انسحاب إسرائيل من محور نتساريم وإتاحة الفرصة أمام سكان غزة للعودة إلى شمال قطاع غزة، سيجعلهم يشاهدون لأول مرة بأعينهم الدمار الهائل الذي تسببت به حركة حماس عندما قررت شن هجوم على إسرائيل. وسيُدرك مئات الآلاف الذين عادوا إلى شمال قطاع غزة أن لا مستقبل لهذا المكان. وكانت نتيجة التقرير النهائية؛ أن ليس كل سكان غزة على استعداد لإخلاء غزة طواعية وأن تصريحات “ترامب” قد تحفزهم على البقاء رغم المعاناة لفترة أطول.
وتبقى تحركات المقاومة الفلسطينية في لهذه الإجراءات ودعمها من قِبل بعض الفلسطينيون من سُكان غزة أحد أهم العقبات، إضافة إلى معارضة الدول العربية خاصر مصر والأردن والسلطة الفلسطينية وبعض الدول العربية؛ ولذا تعتبر إسرائيل أن استئناف الحرب والقتال على القطاع قد يوفر من ناحية الضغط المناسب على سُكان القطاع والظروف الملائمة لعزلهم والتوقيت المناسب لتنفيذ هذه الخطة من ناحية أخرى.
وفي محاولة لتقنين “التهجير الطوعي” قدم رئيس حزب قوة يهودية (عوتسما يهوديت) “إيتمار بن جفير” للكنيست، مشروع قانون وصفة بالثوري الذي سيحقق المصلحة الأمنية القصوى، يتم بموجبه تشجيع الهجرة الطوعية لسُكان غزة على أن يحصل بموجبه المقيم في غزة الراغب في مغادرتها على حزمة من المساعدات المالية والتسهيلات الإدراية، ما لم يكن متورطا في نشاط جهادي (مدان بارتكاب جرائم إرهابية)، كما ينص مشروع القانون على أن المُغادر الذي حصل على المساعدات حتى لو غادر وهو قاصر، سيُطلب منه سداد مبلغ ضعف الذي حصل عليه بالإضافة إلى الفوائد إذا ما أراد العودة مرة أخرى للقطاع، وإذا تأخر في سداد الأموال سيتم منعه من دخول غزة أو أي منطقة أخرى في إسرائيل.
فشل إسرائيل يُعيد فكرة التهجير للأضواء
دون دين أو لغة أو جنسية مشتركة فإن المبادئ السياسية المجردة وحدها هي من لديها القدرة على خلق كيان للشعبين الفلسطيني واليهودي، وليس هناك مجال للمساومة على تعريف اإسرائيل بأنها “يهودية”؛ وليطالب الفلسطينيون بدولة لجميع مواطنيها كمبدأ ديمقراطي شامل بعيدًا عن هذا الواقع المتناقض بالنسبة لهم. هكذا يقول البروفيسور اليهودي الصهيوني “ريموند آرون” في كتابه “السلام والحرب” عام 1962م، والذي يعتبر أن الإسرائيليين والمسلمين (بشكل خاص) من الفلسطينيين داخل إسرائيل(يعتبرهم مواطنين داخل إسرائيل)، غير قادرين على إنشاء مجتمع واحد، ولا يستطيعون الاستقرار على أرض مشتركة، وأحدهما محكوم عليه بتحمل تبعات هذا.
ويبرر هذا المضمون سيولة استطلاعات الرأي الإسرائيلية التي تؤكد على خطورة الوجود الفلسطيني على مصلحة وأمن اليهود القومي بشكل عام وبعد الأحداث الأمنية الكبرى كما يسمونها في إسرائيل بشكل خاص، ومنها على سبيل المثال قديمًا استطلاع معهد جوتمان للبحوث الاجتماعية التطبيقية عام 1990م الذي أكد على حتمية رحيل الفلسطينيين من الضفة الغربية (يهودا والسامرة). وحديثًا استطلاع معهد “الديمقراطية الإسرائيلي” 2023م، الذي خلُص إلى أن معظم اليهود يؤيدون حرمان الفلسطينيين في الداخل الإسرائيلي من الجنسية، أو على الأقل إلغاء حقهم في التصويت والجلوس في الكنيست، وهو يتوافق مع نتائج استطلاع معهد “داف” في نوفمبر 2023م، الذي أشار إلى أن حوالي نصف اليهود والعرب يشعرون بأن العلاقات بين الجانبين ساءت منذ بداية حرب “طوفان الأقصى”، وتقرير منظمة “أكورد” الاجتماعية الأكاديمية أشار إلى أن نصف اليهود الذين شملهم الاستطلاع الذي أجرته في مارس 2024م، يعتقدون أن فلسطينيي الداخل بشكل عام يعارضون العنف ضد اليهود، ورغم ذلك فقد قرر 64% من اليهود أنهم يخشون على سلامتهم الشخصية منذ بداية الحرب. وأن 72% من اليهود لا يثقون بالعرب و50% واجهوا زيادة في مظاهر العداء تجاههم.
ولكن بالنظر إلى التاريخ الحديث فإن الحقيقة الواضحة، أن هناك علاقة واضحة بين الإخفاقات الكبرى الصهيو- إسرائيلية كانهيار اتفاقات أوسلو (1993م) والانسحاب من غزة بعد الفشل (2005م)، والفشل الذريع في السابع من أكتوبر 2023م)، والعودة إلى فكرة تهجير ونقل الفلسطينيين لمعالجة (المشكلة الفلسطينية) (بالنسبة لإسرائيل والعالم ) بعد أن كانت “المشكلة اليهودية” هي التي تؤرق العالم كله قبل عام 1948م.
ختامًا؛ تحيط رائحة التهجير باليهود منذ ظهورهم على مسرح التاريخ، مرورًا بأحداث تسببت فيه كتدمير الهيكلين الأول والثاني في القدس وافتقادهم لمشاعر قومية كالاستقلال السياسي والسيادة وحق تقرير المصير، وترسخ في وعيهم الجمعي ذكرى الشتات ودعوى الاضطهاد والاعتراف بطبيعية وجودهم في المنافي الذي لا يتنافى مع الشوق والتطلع الدائمين للعودة إلى الوطن المزعوم المُرتكز على أساطير أرض الأسلاف ووحدة الأصل والنشأة، وأن “إسرائيل” الحالية هي الامتداد وتجديد الاتصال بالعصور القديمة.
وهناك مقاربة فكرية واضحة بين هذا الراسخ في الوعي الجمعي اليهودي- الصهيوني والترويج لفكرة تهجير الفلسطينيين باعتبارها مثالية وتُفسرها؛ وقد ظهرت في مخطط موجز “لهجرة سُكان غزة الطوعية” التي وضعها “نوجا أربيل” و”يواف سوريك” في فبراير عام 2024م، في ضوء الدمار الشامل للمنازل والبنية التحتية نتيجة الحرب باعتبار إعادة التوطين بالنسبة للفلسطينيين خيار إنساني جدير بالاهتمام، وأن خروجهم ونقلهم من بيوتهم قد تم بالفعل خلال الحرب في صورة نقل سكان شمال قطاع غزة إلى الجنوب لإبقائهم بعيدًا عن القتال ولا معنى للتمسك بها، مع الأخذ في الاعتبار أن تجربة النزوح والهجرة في عام 1948م تشكل جزءًا من الذاكرة الجمعية الفلسطينية، ويُثبت ذلك أن التدمير والخراب وأعمال الإبادة كانت بهدف خلق واقع نفسي جديد مع سبق إصرار وترصد صهيوني؛ بهدف فك ارتباط الفلسطيني بعنصري الزمان والمكان والذكريات القومية، ويصبح أقل ما يقدم ضمان الغذاء والأمن وكانت أحلامًا خلال حرب طويلة قاسية .
وقد حاولنا تفصيل الارتباط بين فكرة التهجير ونقل الفلسطينيين والحركة الصهيونية؛ إذ صاحبتها منذ بدايات المشروع الصهيوني، وأصبحت راسخة في الوعي الجمعي اليهودي الإسرائيلي باعتبارها مؤكدة الحدوث وأن طال الزمن، كما قال “بيرل كاتزنلسون” شريك كفاح “بن جوريون” والعقل المدبر لحركة “العمل اليهودية” عام 1937م: إن ترانسفير الفلسطينيين “هو أفضل الحلول”… ويجب أن يحدث يوماً ما، وأنه لا يقصد نقلًا داخليًا ولكن إلى سوريا والعراق. و”حاييم فايتسمان” عام 1942م الذي استند إلى إحدى الفتاوى الشرعية (الإسلامية) في التأكيد على أن المسلمين خاصة يفضلون الهجرة بدلاً من العيش تحت نظام يهودي “كافر”.
كما نؤكد على أهمية الوقوف على مكونات الوعي الجمعي اليهودي ودراسة التاريخ من وجهة نظر يهودية -صهيونية- إسرائيلية، حتى تتضح الصورة ونحظى بالحس التاريخي السليم، ونستطيع رسم السياسات المنضبطة في ظل مجتمع دولي يناقش سلامة وأمن إسرائيل المُختلقة، ويترك أصحاب الأرض في العراء ثم يروج للدفع بتهجيرهم “لدواعي انسانية”، ويتناسى الجميع أن أعظم الأكاذيب على الإطلاق هي الاعتقاد بأن الغاصب المحتل قادر على التعايش والسلام، وهذا لن يكون، لا اليوم ولا في حياة الصهيوني- الإسرائيلي اليومية ولا في المستقبل المنظور.