شحاته زكريا يكتب: رسائل يوليو من القاهرة إلى تل أبيب: لا تُجرب صبر الدولة

في السياسة كما في الجغرافيا تفرض القاهرة حضورها بثبات الواثقين. لا تلوّح كثيرا لكنها لا تتأخر إذا لزم الحسم. لا ترفع الصوت عبثا لكنها حين تتكلم يسمع الجميع. هكذا كانت مصر دائما ، وهكذا تتجلى صورتها مجددا فى لحظة فارقة من التاريخ .. فى يوليو آخر يتشح بجراح غزة ويُحاصر العالم بأسئلة المصير ويُعيد ترتيب كواليسه على وقع براميل البارود وخرائط النار.
فى الذكرى الثالثة والسبعين لثورة 23 يوليو لم تكن كلمات الرئيس عبد الفتاح السيسي مجرد خطاب احتفالى بل حملت إشارات مشفّرة ورسائل واضحة أُرسلت بلغات شتى إلى من يعنيهم الأمر. بين كل السطور كانت تل أبيب هى المتلقى الأول وبين كل العبارات ، كانت الدولة المصرية ترسم حدود الصبر وحدود الردع بل وحدود التاريخ الذى لا يُنسى.
منذ أكتوبر 1973 ومصر لم تطلق رصاصة لكنها لم تُسقط سلاحها يوما. اختارت طريق السلام لكنها لم تساوم على الكرامة. مدّت يدها بالعقل لكنها لم تسمح لأحد أن يجرّب قدرتها على الحسم. سنوات طويلة ومصر تُمارس دبلوماسية القوة الهادئة تحفظ الإقليم من الانفجار وتُوازن بين الضغوط وتحول دون انزلاق الجميع إلى هاوية اللاعودة. لكن لكل صبرٍ حدود ولكل دولة أعصاب ولكل لحظة قرار.
اليوم وبعد أكثر من تسعة أشهر على حرب إبادة فى قطاع غزة ، لم يعد المشهد يحتمل المواربة. تمادت إسرائيل فى غيّها، تجاوزت الخطوط الإنسانية والسياسية بل بلغت ذروة الانفلات عندما وجّهت صواريخها إلى دمشق ، وضربت قلب السيادة العربية وكأنها تُعيد اختبار ذاكرة المنطقة وقدرتها على الرد.
جاء الرد المصري كعادته دون ضجيج لكنه قاطع. فالجيش الذى أعاد تشكيل عقيدته القتالية وبنى قواعده العسكرية على امتداد الحدود وأعاد هيكلة ترسانته بأحدث منظومات التسليح لم يفعل ذلك للعرض أو الاستعراض بل لأن مصر تُدرك منذ 2013 أن الجمهورية الجديدة لا تُبنى فقط بالإصلاح الاقتصادى والتنمية الاجتماعية ، بل بحائط ردع صلب يحفظ القرار الوطنى من الابتزاز ويصون الأمن القومي من العبث.
فى كل خطاب رئاسي هناك شيفرة خاصة تُدركها غرف الاستخبارات. وهناك دوائر ترصد اللهجة والنبرة وتلتقط التوقيت. لذلك لم تمرّ جملة الرئيس فى احتفالية 23 يوليو مرورًا عابرًا عندما قال: لن نسمح لأحد بتهديد أمننا أو تجاوز خطوطنا الحمراء.. وندير الأمور بحكمة وصبر لكننا لا نتهاون فى حقوقنا .
إنها الرسالة ذاتها التى صدحت بها القاهرة فى يوليو 2013 عندما استرد الشعب دولته وأعلن عن جمهورية جديدة تُعيد ترتيب البيت من الداخل ، وتُحصّن جدرانه من الخارج. واليوم فى يوليو 2025 لا تزال مصر ترسم خطوط المعادلة بثبات الجبال: لا عدوان على الأشقاء لا تدخل فى السيادة ، لا صمت على المجازر ولا تفريط فى المصالح.
ليست الرسالة موجهة إلى تل أبيب فقط بل إلى كل من يحاول اختبار صبر الدولة المصرية أو يراهن على تآكل إرادتها. فمن يظن أن انشغال مصر بالداخل سيمنعها من الرد على التهديدات الإقليمية لا يعرف التاريخ جيدا. ومن يراهن على الضغوط الدولية لتقييد الحركة المصرية ، لا يفهم تغير موازين العالم.
فالمعادلة الجديدة تقول: مصر أصبحت رقما صعبًا لا يُمكن تجاوزه وصاحب دور لا يُمكن تحجيمه. تملك أدوات التأثير وتُجيد إدارة التوازن ، وتعرف متى تنفرد بالقرار ومتى تستعمل أوراقها الاستراتيجية ، سياسيا أو عسكريا أو اقتصاديا.
إن من يُمعن النظر فى تحركات الدولة المصرية خلال السنوات الأخيرة ، سيرى أنها لم تترك ثغرة دون تحصين: من ضبط الحدود إلى تحييد الإرهاب إلى بناء شبكات الردع إلى التحالفات الإقليمية المرنة إلى فلسفة التوازن بين الشرق والغرب.. وفى قلب كل ذلك تُعيد القاهرة تقديم نفسها كقوة عقل رشيد لا تُستفَزّ بسهولة ، لكن لا تُهادن حين يتعلق الأمر بالكرامة أو الأمن أو المصير.
لذلك فإن رسائل يوليو لا تُقرأ من عنوانها فقط بل من مضمونها العميق ومن ظل التاريخ الذى يرافقها. ففى يوليو 1952 أعادت مصر رسم ملامح المنطقة وفى يوليو 2013 استعادت قرارها الوطني وفى يوليو 2025 تُرسل رسائلها الأخيرة: لا تُجرّبوا صبر الدولة.
قد تكون القاهرة صامتة أحيانا لكنها لا تغفل. وقد تمضى فى طريق الحكمة لكنها لا تُخطئ الطريق إلى الحسم. وفى إقليم يُعيد تركيب نفسه بالنار تبقى مصر هى الدولة التى تملك شرعية العقل ورخصة الرد وجدارة القيادة.
فليقرأ الجميع ما بين السطور.. وليدركوا أن مصر حين تقول: “لن نسمح”، فهى لا تُجامل. بل تُعلن بوضوح أن الخط الأحمر قد رُسم.. ومن يجرؤ على تجاوزه فليتحمل عواقب اختياره.