معرفة

لماذا مازال الفلاح المصري يحتفظ بالتقويم المصري القديم

في قلب التقلبات المناخية العالمية، حيث تتأرجح مواسم الزراعة وتضطرب التوقعات الجوية، يظل التقويم المصري القديم المعروف شعبيا بالقبطي صامدًا كنظام مراقبة مناخي متكامل، لا مجرد عدّاد للأيام.

يعود سر هذه الاستمرارية والدقة المدهشة إلى ألفي سنة من التكيف والاندماج. فقد صُمم التقويم في مصر الفرعونية (حوالي ٤٢٤١ ق.م) بناءً على دورة نهر النيل والفصول الزراعية. عندما احتلت روما مصر (٣٠ ق.م)، فرضت التقويم اليولياني الروماني، لكن المصريين استمروا سراً في استخدام تقويمهم الأصلي في الزراعة والمناسبات المحلية. قسم المصريون السنة إلى ثلاثة فصول رئيسية مرتبطة بالزراعة: الفيضان والزرع والحصاد، واثني عشر شهرًا من ثلاثين يومًا، يتبعها خمسة أيام نسيء. مع دخول المسيحية إلى مصر، تبنت الكنيسة هذا النظام الدقيق، مع تعديل طفيف لحساب السنة، ليتحول إلى تقويمها القبطي أو “الشهداء” الذي صمد بثبات في وجه تقلبات التاريخ.

اليوم، يظل هذا التقويم القديم المتجدد حجر الزاوية في تحديد المناسبات الدينية المسيحية الكبرى في مصر. فموعد عيد القيامة المجيد، وأعياد الميلاد، وفترة الصوم الكبير، وجميع الأعياد السيدية والسنوية للقديسين، تُحسب بدقة وفقًا للتقويم القبطي. لا يمكن فصل قدسية هذه الأحداث عن الدورة الزمنية التي ارتبطت بها الكنيسة لقرون طويلة، مما يجعل الاستمرار في استخدام التقويم ضرورة دينية وطقسية.

أما في الريف المصري، حيث لا تزال نبضات الأرض هي المحرك الأساسي للحياة، فيحتفظ التقويم القبطي بقيمته العملية المتوارثة. يعتمد الكثير من المزارعين على أشهره لتحديد مواعيد الزراعة والحصاد الأمثل لمختلف المحاصيل. فأسماء الشهور القبطية نفسها، مثل “توت” و”بابه” و”أمشير” و”برمهات”، تحمل في طياتها إشارات مناخية وزراعية تراكمت عبر آلاف السنين من الخبرة والمعرفة، تشكل ذاكرة جماعية للتعامل مع طبيعة مصر الفياضة والمتقلبة.

سر الدقة الممتدة لآلاف السنين

  1. مصدره: مراقبة الطبيعة المصرية تحديدًا
    بُني التقويم الفرعوني (أصل القبطي) على ثلاثة فصول فقط مرتبطة بـنهر النيل: الفيضان (أخِت)، البذر (برِت): من أكتوبر إلى فبراير. الحصاد (شيمو).
    هذه التقسيمات تتفق مع إيقاع الزراعة في وادي النيل، بخلاف التقويم الميلادي المبني على فصول أوروبية (ربيع/صيف/خريف/شتاء) لا تنطبق على مناخ مصر.
  2. الأسماء الشهرية: “شيفرة مناخية” موروثة
    كل شهر يحمل اسمًا فرعونيًا يعكس ظاهرة طبيعية متوقعة:
  • أمشير: مشتق من “ميشير” (الرياح العاتية).
  • برمهات: من “با-رع-حنت” (فترة الحرارة المرتفعة).
  • كيهك: من “كا-حر-كا” (روح فوق روح) إشارة للبرد القارس.
  • هذه الأسماء تحذر الفلاح مسبقًا من تغيرات الطقس.
  1. الدقة الفلكية: تعامد الشمس على المعابد
  • حسب علماء الآثار، معبد الكرنك في الأقصر بُني بحيث تتعامد الشمس على قدس الأقداس في يوم ٢١ ديسمبر (بداية شهر كيهك). ومع تغير المناخ سيتغير ليثبت دقة المصري القديم. هذا يثبت أن الفراعنة ربطوا التقويم بظواهر فلكية ثابتة (ميلان الشمس، الفيضان) لا تتأثر بتقلبات المناخ القصيرة.
  1. التكيف مع التغير المناخي: “ذاكرة التربة”
    رغم تغير مواعيد الفيضان بعد بناء السد العالي، الفلاحون عدلوا استخدام التقويم دون التخلي عنه وظل مرجعًا لمواقيت الزراعة ولـأمراض المحاصيل(مثل: “أمشير” موسم ذبابة الفاكهة).

وراء الجانبين العملي والديني، يكمن بُعد ثالث أعمق: البُعد الهوياتي والذاكرة الثقافية. استخدام التقويم القبطي/الفرعوني هو شهادة حية على استمرارية الحضارة المصرية عبر العصور. إنه جسر رمزي يربط المصري المعاصر بأجداده الفراعنة، ويتحدى فكرة الانقطاع الثقافي. الاحتفاظ بهذا التقويم، سواء في الكنيسة أو في الحقل أو حتى في التسميات الشعبية للأيام، هو تأكيد على تفرد التراث المصري وقدرته المذهلة على التكيف والاستمرار، محتفظًا بجذوره الضاربة في عمق التاريخ، رغم كل رياح التغيير. إنه ليس مجرد حساب للأيام، بل هو سجل حي لروح مصر التي لا تنفصل عن نيلها وترابها وذاكرتها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى