
تتصاعد الاحتجاجات في الشارع الإسرائيلي نتيجة سلوك وتوجهات الحكومة ورئيس الوزراء، وتتعالى الأصوات بانتقادات حادة لأسلوب إدارتها للحرب، حتى وصل الأمر إلى قول البعض بأن المقاومة في قطاع غزة أكثر مصداقية من حكومة لا تلتفت لأمرهم ولا تعتني بمطالبهم.
ويتجلى ذلك في المظاهرات المستمرة في تل أبيب والقدس، حيث يعتبر المحتجون أن الحكومة تخلت عنهم ونشغل السياسيون بأنفسهم وخلافاتهم ، ما يعكس عمق الصدع بين المواطن وقياداته، وامتداده إلى المؤسستين السياسية والعسكرية.
الحروب النفسية في الفِكر الإسرائيلي
تمتد الجذور التاريخية لفكرة الحرب النفسية إلى الحضارات القديمة، عندما قامت استخدمت الجيوش الإغريقية والرومانية باستخدام التهديد والشائعات والمعلومات المضللة لزعزعة صفوف العدو. كما استُخدمت التكتيكات النفسية في الحصار، وكان إلقاء الجثث المريضة فوق أسوار المدن يهدف لبث الرعب في نفوس المحاصرين؛ وكان لذلك أثر كبير في تشكيل التصورات وتبرير السلوك العسكري على أسس دينية خلال الحروب الصليبية، كما تم العمل بها إبان الحرب العالمية الأولى. واستخدم المحلل العسكري “جون فريدريك تشارلز” مصطلح “الحرب النفسية” للمرة الأولى عام 1920م، واعتبر أحد أدوات القوى الناعمة خلال الحرب العالمية الثانية خاصة في الولايات المتحدة الأمريكية، وتم تعريفه كمخطط دعائي منظم يُستخدم بغرض التأثير على الأعداء لتحقيق الأهداف القومية.
وتستهدف الحرب النفسية ثلاثة فئات من الجمهور: المحلي ويجب مخاطبته وإقناعه بمبررات الحرب والعدو الذي يجب أن يفهم أن الحرب دون جدوى وأن فرصته في الانتصار معدومة، والمحايد الذي قد يحسم بعض الاشكاليات إذا ما تم استقطابه.
وقد أصبح هذا النوع من الحروب الآن ضمن التكتيكات والاستراتيجيات السياسية والدبلوماسية بشكل عام.
وأما استخدام “الحرب النفسية” في الفكر اليهودي فلا أدل عليه أكثر مما جاء في “المقرا” (الكتاب المقدس اليهودي- العهد القديم)؛ فكان في (سِفر الملوك الثاني18: 72) في سياق الحرب الآشورية في “يهوذا”، عندما بشر وزير الجيش الآشوري سكان القدس (أورشليم) المحاصرين بانتهاء الحرب لإقناعهم بالاستسلام دون قتال، وقال: وإليك سيدي أرسلني لأتكلم بهذه الكلمات…” ولكنه فشل في مهمته حيث ظل سكان القدس صامتين أمام نداءاته ولم يتعاونوا مع دعايته، كما أمرهم الملك حزقيا عندما قال: “وصمت الشعب الذي على السور”.
انقسامات وإحباط عام واستياء شديد في الشارع الإسرائيلي
عبر المواطنون الإسرائيليون من خلال وسائل الإعلام العبرية عن حالة الإحباط السائدة في الشارع الإسرائيلي، وعن شعورهم العميق بالألم عندما تتجلى حقيقة أن “حماس أكثر مصداقية من حكومتهم اليمينة المتطرفة، التي تُغرقهم في الأكاذيب وليّ الحقائق وعلى رأسها نتنياهو الذي يُغذي دون أن يشعر، العنصرية والكراهية بين التيارات المختلفة.
وقد أظهر استطلاع الرأي الذي أجراه معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي الأسبوع الماضي أن 76% من الإسرائيليين قد فقدوا الثقة في حكومة نتنياهو، مما يعكس عمق الفجوة بين المجتمع الحكومة والقيادات السياسية.
كما تتزايد حدة الانتقاد على المستوى الداخلي، نتيجة شعور الكثيرون بأن الاعتبارات الشخصية المُسيسة تطغى على المصلحة العامة المرتبطة بالدولة والمواطن وإدارة الحرب لصالحهما.
وانطلق البعض في عقد مقارنات تاريخية عن كيفية صعود النازية والفاشية لفهم سلوك ومسار هذه الحكومة، واعتبر النقاد في بعض مقالات الرأي أن سياسات الحكومة فيما يتعلق بالقضاء والإعلام وإدارة الحرب، فاشية وتُمثل تهديدًا مستقبليًا بالنسبة لإسرائيل؛ مما يعكس القلق العميق الذي يعيشه المواطن الإسرائيلي، نتيجة تدهور وانحسار مظاهر الديمقراطية في المجتمع الإسرائيلي.
إضافة إلى حالة الغضب المتزايدة والانقسام المجتمعي الحاد حول جدوى أهداف الحرب والسياسات التي تطيل أمد الحرب لأسباب سياسية، تزايدت التقارير حول الخلافات العميقة حول استراتيجية الحرب وخطة “اليوم التالي” بين المستويين السياسي والعسكري، مما يعكس حالة من عدم اليقين والقلق بين الإسرائيليين بشأن نتائج الحرب، ودعم هذا شهادة أحد ضباط الجيش الإسرائيلي الكبار، التي كانت صادمة وغير مسبوقة بالنسبة للمجتمع الإسرائيلي، وجاء فيها أن استقالته من الخدمة العسكرية كانت احتجاجًا على الأوامر غير المشروعة والتي تتعارض مع القانون والتي تلقاها خلال عملية “مركبات جدعون” ، كما انتقد بشدة الجوانب العملياتية والسياسية والاستراتيجية للجيش الإسرائيلي في حربه على قطاع غزة، ووصف حكومة إسرائيل بالتطرف في قوله: أن مجموعة متطرفة تُدير الحرب ولا تُمثل الأغلبية في المجتمع الإسرائيلي؛ مما يعكس ذلك حالة التململ والاعتراض والرفض في الصفوف الجيش الإسرائيلي، خاصة في ظل اتهامه المستوى السياسي بالتضحية بهم والرهائن، لاعتبارات سياسية ومصالحهم الشخصية، وهو دون شك نذير أزمة داخلية في المؤسسة العسكرية والجيش.
غالبية الإسرائيليين لا يثقون في نتنياهو وحكومته
استخدمت إسرائيل أدوات “الحرب النفسية” على نطاقٍ واسع خلال الحروب المختلفة على قطاع غزة؛ واجتهدت في إحداث الوقيعة بين الفصائل الفلسطينية والمقاومة والمدنيين، كما مارس الساسة الإسرائيليون هذه الحيّل النفسية على المواطن الإسرائيلي، وكم رأينا وسمعنا ردود فعل نتنياهو بخلاف الحقيقة، بعد كل مرة يعود فيها فريق التفاوض، مؤكدًا قرب عقد الصفقة تمهيدًا لإنهاء الحرب، في حين يتخبط الجيش الإسرائيلي في القطاع أو “وحل غزة” كما تطلق عليه الأدبيات الإسرائيلية.
وقد تحولت الحرب النفسية إلى عملية تشكيل وعي جمعي، استخدم فيها نتنياهو وحكومته اليمينة المتطرفة وسائل التواصل الاجتماعي، على مدار اليوم، لإقناع الرأي العام داخليًا وخارجيًا، بأن حماس هي المسؤولة عن عدم التوصل إلى اتفاق وأن الضغط العسكري وحده هو الوسيلة الوحيدة لتحرير الرهائن واستمرار الحرب.
وبعد ما يقرب من عامين على هذا السلوك ، أظهر استطلاع القناة 12 العبرية أن غالبية الإسرائيليين لا يصدقون نتنياهو وحكومته ويؤيدون صفقة تبادل شاملة وفورية، وأن أغلبية الجمهور الإسرائيلي لا يثقون في تصريحاته بشأن عمل مستشاريه الإعلاميين لصالح قطر، وأنه لم يكن على علم بهذا فيما يُعرف بفضيحة قطر جيت.
وأيد حوالي 35% من مؤيدي المعارضة رئيس الوزراء السابق نفتالي بينيت كأنسب شخصية للوقوف على رأس المعارضة الإسرائيلية في هذه الأوضاع، ويليه جادي آيزنكوت، ثم يائير لبيد ويائير جولان بنسبة 10% لكل منهما.
ختامًا؛ لم يصف الساسة في إسرائيل الحالة التي يمر بها المجتمع بشكل صحيح ، في كل مرة يكررون فيها أنها تخوض حربًا وجودية متعددة الجبهات، لأنها في الحقيقة حربًا نفسية أدت إلى اتساع الفجوات في المجتمع الإسرائيلي، الذي يرى كذب قادته بوضوح في كل مرة يحاولون فيها التذرع لاستمرار الحرب، ما أدى إلى خلق حالة عامة من الإحباط والقلق، والخوف من المستقبل والفقد الذي أصبح راسخًا في الوعي الجمعي الإسرائيلي، وكما قال البروفسير الإسرائيلي “رون شلايفر”: “أن “إسرائيل” فقدت الثقة بنفسها وانعكست حروبها النفسية عليها كما ينقلب السحر على الساحر، وكانت النتيجة أن الانقسام والقبلية والعنصرية هي المشاعر السائدة في المجتمع الإسرائيلي، وأن الانهزامية والشعور بالذنب نتيجة “حروب نفسية فعّالة” و”حقيقية”، هو ما يحول بيننا وبين النصر المطلق في مختلف الحروب منذ زمن طويل.