
قراءة متعمقة للأزمة الجيوسياسية المتصاعدة في منطقة البحر الأحمر واليمن وتأثيرها على الأمن القومي المصري
تتداخل في الآونة مفاصل استراتيجية وبُعدٌ طويل الأمد لأمن مصر القومي ، إذ تحوّل ما يجري في اليمن وجنوب البحر الأحمر من تهديد محلي إلى “مسرح” جيوسياسي كبير يشمل توازنات القوى الإقليمية والدولية ، و يصل تأثيره مباشرة إلى مسار الملاحة عبر قناة السويس.
وفيما يلي تحليل مفصّل لهذا المسار من خلال التسلسل التالي :
التهديد القادم من تقسيم اليمن ، موقف وتحرك مصر ، الأبعاد الجيوسياسية للمشروع ، ورؤية مصر للحلّ.
أولاً: التهديد القادم من تقسيم اليمن
في قلب هذه المعادلة نجد ما يُمكن اعتباره
“مهمة أخيرة وثقيلة” أمام القاهرة ، تتمثّل في الوقوف في وجه مشروع قد يدخلها في حصار طويل الأمد.
يأتي هذا التهديد من مشروع إعلان كيان يُسمّى المجلس الانتقالي الجنوبي (STC) بقيادة عيدروس الزبيدي ، الذي يسعى -بدعم وتنسيق من أطراف إقليمية ودولية– إلى إحياء دولة ” يمنية جنوبية ” مستقلة.
الهدف الاستراتيجي لهذا المشروع ليس اليمن داخلياً فحسب ، بل السيطرة على ممر باب المندب ، واستنزاف مصر وإضعافها عبر إحكام السيطرة على المجرى الملاحي لقناة السويس.
الواقع أن منطقة باب المندب تُعدّ نقطة تفتيش حرجة ، حيث أنّ أي خلل فيها قد يؤدي إلى تعطيل الملاحة بين البحر الأحمر والمحيط الهندي .
هذا التحول ، إذا ترتّب عليه إنشاء كيان جنوبي مع دعم خارجي ، يشكل تهديداً مباشراً لقناة السويس باعتبارها شريان مصر الاقتصادي والأمني.
ثانياً: الموقف والتحرك المصري
مصر، التي تدرك خطورة المعادلة، اتخذت خطوات واضحة على أكثر من محور:
التهديد العسكري: أفادت تقارير بأن مصر أبلغت الولايات المتحدة رسمياً بأنها تعتبر أي قاعدة عسكرية إسرائيلية في اليمن ـ تحديداً عند باب المندب أو مدخل قناة السويس ـ “خط أحمر”
سيضطرها للتدخل عسكرياً.
ارسال الوفود و تشكيل التحالفات: أرسلت مصر وفوداً إلى اليمن لبدء حوار شامل يُسمّيه البعض “إنقاذ الكارثة”، كما عملت على تشكيل تحالف إقليمي من أجل احتواء الملف، يُضمّ قوى مثل السلطنة العُمانية، قطر، وإيران (حسب المعطيات المعلنة).
التواجد الإقليمي المصري: في إطار تأمين ممرّ البحر الأحمر، سجل الجيش المصري حضوراً أو اتفاقيات عسكرية في كلّ من السودان، إريتريا، الصومال، جيبوتي، وقد سبق أن لعب دوراً في إغلاق قاعدة عسكرية إسرائيلية سابقة في إريتريا.
هذه الخطوات تظهر أن مصر لا تكتفي بالملاحقة الدبلوماسية بل تسعى إلى توازن قوى فعلي في محيطها الإقليمي.
ثالثاً: الأبعاد الجيوسياسية للمشروع
عند النظر إلى خلفية هذا المشروع، تتجلى أبعاد متعددة:
الأهداف الإسرائيلية: من المعروف أن إسرائيل تسعى -من خلال دعم دولي لبعض المشاريع في جنوب اليمن– إلى التغلغل في جنوب البحر الأحمر
و خليج عدن، وإحاطة القاهرة من الخلف. هذا المشروع الذي يخدم مبدأ “فرق تسد “
(Divide and Conquer)
في سياق إعادة هندسة الشرق الأوسط لصالح إسرائيل.
الأهداف الخليجية والاقتصادية: من ضمن الأهداف الخليجية هو فكرة إنشاء مشروعٌ بديل لمسارات النفط والملاحة ، مثل فكرة حفر ما يُعرف بـ “قناة الملك سلمان” التي تبدأ من السعودية مروراً بحضرموت جنوب اليمن لتصل إلى المحيط الهندي، في خطوة تهدف إلى تخطي مضيق هرمز الذي تُسيطر عليه إيران ، وبالتالي تغيير قواعد اللعب الاقتصادي والنفطي في المنطقة.
مشروع الشرق الأوسط الكبير: يُنظر إلى انفصال اليمن الجنوبي كجزء من مشروع أوسع لتقسيم الدول الكبرى وتفتيت المنطقة إلى كيانات أصغر يسهل التحكم بها ؛ إذ تُعدّ منطقة البحر الأحمر وجنوبها مسرحاً لتشابك مصالح إقليمية ودولية ، و يمكن القول إن أيّ تحرك في هذا الحوض البحري
سينعكس سريعاً على مصر.
رابعاً: تأثير ذلك على الأمن القومي المصري و قناة السويس
في هذا السياق، فإن مصر هي “صخرة النهاية ” التي يتحطم عليها كل من يقترب من أمنها القومي ؛ ” فالقناة التي تعتبر أحد أعمدة الاقتصاد الوطني ” معرضة لخطر تعطيل الملاحة أو تكبيد الدولة خسائر جسيمة في حال توقف المرور أو تغيّر مساراته ، و تشير التقارير إلى أن الاضطرابات في البحر الأحمر و تداخل العمليات العسكرية للحوثيين و القوى الطامعة قد أثّرت بالفعل على حجم الملاحة
و تدفق عوائد رسوم العبور لمصر.
كذلك فإنّ مشروع تقسيم اليمن والتحكم في باب المندب يعني عملياً تحوّلاً في الملاحة الدولية ، و تحكّماً بمنطقة استراتيجية يمكن أن تُستخدم كورقة ضغط على مصر ، و لذلك فإنّ ردّ القاهرة سواء عبر التواجد العسكري أو التحالفات الدبلوماسية يُعدّ دفاعاً مباشراً عن مصالحها.
خامساً: رؤية مصر للحلّ
تمثّل رؤية مصر هي الحل الشريف في زمن أطماع الأقربين و الأبعدين وهو قائم على المبادئ التالية:
دعم اليمن الموحد: مصر تُفضّل الحلّ الدبلوماسي وتعمل على إعادة إنتاج اليمن الموحد صاحب السيادة والقرار الوطني المستقل، وتُرفض أي مسار تقسيمي يُضعِف الدولة أو يفتّتها.
صوت العقل: مصر تعتبر نفسها صوت العقل في العالم العربي المغيب وهي الصوت الذي يعمل من أجل مصلحة الشعوب العربية ووحدة دولها، وترى
أن أمنها القومي مرتبط ارتباطاً عضويّاً بسلامة واستقرار الدول العربية، و ليس بصراعاتها أو تفتيتها.
التحذير الأخير: على الرغم من أن مشروع التقسيم لا يزال مستمراً، فإنّ مصر تؤكد أن ” من يقترب من أمنها القومي يكتب بنفسه شهادة نهايته “، و هذا تحذير جادّ يُعبّر عن مدى الجدية في الموقف المصري.
سادساً: الخلاصة و التوصيات
في ضوء ما سبق ، يمكن القول إنّ مصر تقع في مركز هذا التفاعل الجيوسياسي المعقّد، ليس كمراقب فحسب، بل كلاعب رئيسي لا يمكن تجاهله. فالأزمة في اليمن وجنوب البحر الأحمر تشكّل تهديداً مباشراً لملاحتها، وخصوصاً لقناة السويس التي تمثّل شرياناً اقتصادياً وأمنياً. ومن هنا تأتي الحاجة إلى استراتيجية وطنية إقليمية متكاملة، يمكن اختصارها في النقاط التالية:
ضرورة تكثيف الجهود الدبلوماسية لإيجاد حلّ شامل في اليمن يمنع تفكيك الدولة أو إنشاء كيانات بديلة تهدد الأمن القومي العربي و المصري تحديداً.
تعزيز التنسيق مع دول الجوار والتحالفات الإقليمية التي تشارك القاهرة الرؤية ذاتها ، وضمان أن تكون مصر في مركز المبادرة لا في موقع ردّ الفعل.
الاستثمار في تعزيز قدرات مصر البحرية والأمنية في البحر الأحمر والتأكد من أن المرور البحري دولياً في متناول العين المصرية، مع مراقبة أي قواعد أجنبية أو إسرائيلية تظهر في المنطقة البحرية الاستراتيجية للسيطرة على باب المندب.
تفعيل أدوات الاقتصاد المصري المرتبطة بالملاحة والعبور الدولي ، وتطوير بدائل احترازية للقناة و التحوّط في حال تعطّل مرور الملاحة لأسباب أمنية
، بما يضمن عدم سقوط مصر فريسة لإكراهات استراتيجية.
رفع مستوى الوعي الدولي بأنّ أي مشروع لتقسيم اليمن أو السيطرة على مضيقاته لن يكون موجهًا فقط نحو اليمن، بل نحو أمن الملاحة العالمي، وبالتالي يجب ربطه بمسارات دولية تُحمّل الطامعين مسؤولية أي تعطّل أو تهديد للممرّ البحري .
في الختام ، إنّ ما يحدث على حدود اليمن وجنوب البحر الأحمر ليس مجرد نزاع محليّ أو مشروع انفصال ، بل هو امتحان جديد لقدرة مصر على حماية أمنها القومي و تأمين حركة الملاحة الدولية التي تمثل جزءاً محورياً من وجودها الاقتصادي والسياسي ، وإذا كانت مصر تؤمن بأن التاريخ يشهد بأن من يقترب من أمنها القومي يوقّع على نهايته ، فإنّ عليها أن تعجز الجميع مجدداً عندما تكتب هذه الصفحة الجديدة في كتاب التاريخ.



