
في كل عام تحل ذكرى السادس من أكتوبر، فأتذكر أنني وُلدت بعد النصر بسنوات طويلة، ومع ذلك أشعر وكأنني عشته لحظة بلحظة.
فهذا النصر العظيم لم يكن حدثًا عابرًا، بل كان ميراثًا وطنيًا توارثته الأجيال؛ فمن عاشوا الحرب أورثوا أبناءهم الفخر، وهؤلاء بدورهم أورثوه لنا، حتى أصبح شعورًا راسخًا يجري في دماء المصريين جميعًا.
أنا اليوم في السادسة والعشرين من عمري، لم أسمع خطاب النصر من الرئيس السادات، ولم أعش لحظة العبور، لكنني ورثت إحساسها ممن سبقوني: من جيل أبي وأمي، ومن قصص أجدادي الذين عاصروا الأيام الصعبة ورأوا الفرح الغامر يوم تحقق النصر. وكأن البطولة تسلّمتها الأجيال مثل شعلة لا تنطفئ، لتمدّنا نحن اليوم بالطاقة والإصرار.
لقد جسّد نصر أكتوبر أن المصري قادر على تحطيم المستحيل. خط بارليف الذي وُصف بأنه لا يُقهر، انهار أمام عزيمة الجندي المصري الذي حمل الإيمان في قلبه والسلاح في يده. هذه الحقيقة لم تبقَ في ساحات القتال فقط، بل انتقلت كرسالة للأجيال: أن الحواجز مهما بدت قوية يمكن أن تنهار إذا اتحدنا وأخلصنا.
ولم يكن ذلك النصر وليد الصدفة، بل ثمرة سنوات من العمل الدؤوب والتضحية؛ يكفي أن نتذكر الفريق عبد المنعم رياض، الذي لم يختبئ خلف مكتبه، بل اختار أن يقف مع جنوده في الخطوط الأمامية حتى استشهد في 9 مارس 1969، ليصبح رمزًا لقيادة تعرف معنى التضحية.
أو الشهيد إبراهيم الرفاعي، أسطورة الصاعقة وقائد المجموعة 39 قتال، الذي قدّم حياته في عمليات بطولية خلف خطوط العدو، ليترك درسًا خالدًا في الفدائية والشجاعة.
ولا يمكن أن نغفل دور الرئيس أنور السادات، الذي جمع بين الصبر والدهاء والذكاء السياسي.
فقد كان يعرف أن المعركة ليست بالسلاح وحده، بل بالعقل والتخطيط والقدرة على اختيار اللحظة المناسبة. وبقراره التاريخي، أثبت أن القيادة الحكيمة هي نصف النصر.
مشاهد الاحتفالات بعد الحرب، التي رواها لنا من عاشها، هي الصورة الأجمل التي ورثناها: شعب كامل يخرج للشوارع، الأعلام ترفرف، الأناشيد تملأ الأجواء، دموع الفرح تختلط بالابتسامات. هذه المشاعر لم تنتهِ بانتهاء الحرب، بل انتقلت إلينا نحن، لتظل الروح الوطنية حية.
إن نصر أكتوبر يعلّمنا نحن أبناء الجيل الجديد أن مصر لا تعيش على الماضي، بل تبني على إرثه. ما ورثناه من بطولة وصبر وإصرار يجب أن يتحول إلى عمل في الحاضر، حتى نعبر نحن أيضًا معاركنا المختلفة: معركة البناء، معركة التنمية، معركة الحفاظ على الاستقرار والكرامة.
وبينما نحتفل اليوم بذكرى العبور، نتذكر أنتم يا من عبرتم القناة وصنعتم لنا النصر، قد ورّثتمونا أغلى ما يملكه وطن: العزة والكرامة.
أنتم ضحيتم بأرواحكم، ونحن اليوم نعاهدكم أن نحمل ميراثكم، وأن نعبر بصبركم وذكراكم كل صعاب عصرنا.
أنتم انتصرتم بالسلاح، ونحن سننتصر بالإرادة والعمل، لتظل مصر دائمًا في مكانتها التي تستحقها.