سلايدرمقالات

شحاتة زكريا يكتب: السيرك الكبير.. مقاعد ممتلئة وعقول فارغة

لم يكن السيرك يوما مجرد خيمة يتجمع فيها الناس ليشاهدوا عروضا بهلوانية أو حركات مدهشة للوحوش المروّضة. السيرك في جوهره حالة إنسانية كاملة تعكس طبيعة البشر في انجذابهم للصخب وسعيهم وراء الإثارة وإعجابهم بما يخطف الأنفاس ولو للحظة عابرة. لكن الفارق أن السيرك القديم كان مساحة ترفيهية مؤقتة ، بينما السيرك الحديث الذي نعيشه اليوم ــ سيرك “التريند” ــ تحوّل إلى ساحة يومية تلتهم العقول وتعيد تشكيل الوعي وتصنع أبطالا من ورق وتصفيقا يعلو ثم يخفت دون أن يترك أثرا حقيقيا.

كل يوم نرى آلاف المقاعد ممتلئة في “السيرك الكبير” الذي تُقيمه المنصات الرقمية. مشاهدون بالملايين يتابعون عرضا جديدا: فضيحة مفتعلة تصريح غريب فيديو قصير أو صورة ملونة بفلتر يلمع أكثر من الحقيقة. الجميع يصفقون يضحكون، يغضبون، يشاركون، لكن قليلين جدا هم من يسألون: ما الذي يحدث حقا وراء الستار؟ ومن المستفيد من هذا العرض؟ وأي عقل يمكن أن يخرج من هذه الخيمة الضخمة أكثر وعيا مما دخلها؟

التريند ليس مجرد حالة افتراضية بل هو أداة لإدارة الانتباه وسلاح لتوجيه العقول. في السيرك يُشغل الجمهور ببهلوان يتقافز أمامه حتى لا يرى الحبال الخفية التي تشد جسده أو الأسد المرهق الذي تم تخديره ليبدو مطيعا. في عالمنا الرقمي يحدث الشيء ذاته: تُصنع قصص ضخمة تُضخَّم تفاصيلها بينما تخفى خلفها حقائق أكبر بكثير ومشكلات تمس حياة الناس بعمق. ولأن العيون مسمّرة على المشهد يمر ما هو أهم بلا ضجيج وكأن لا أحد رآه.

المشكلة ليست في وجود السيرك بل في امتلاء المقاعد دوما وكأن الناس فقدوا القدرة على اختيار أماكن أخرى للمعرفة والتأمل والبحث. المقاعد المملوءة تعني أن الجمهور حاضر لكنه حاضر بجسده فقط أما عقله فمغيب أو منساق خلف الموجة. كثيرون يظنون أنهم يشاركون في “الوعي الجمعي”، بينما هم في الحقيقة أسرى “اللاوعي الجماعي” الذي يوجهه آخرون بدهاء شديد.

لكن السؤال الأعمق: لماذا ينجذب الناس إلى السيرك؟
الإجابة أن الإنسان بطبيعته يميل إلى ما يثير حواسه وما يمنحه جرعة سريعة من المتعة أو الغضب أو الانفعال. التريند أشبه بالسكر: حلو المذاق، سريع المفعول، لكنه لا يغذي الجسد ولا يبني العقل. ومع تكرار الجرعات يتحول الفرد إلى مدمن يبحث في كل صباح عن تريند جديد لا ليتعلم شيئا أو يغيّر واقعه بل ليملأ فراغا داخليا صنعه غياب المعنى.

الأخطر من ذلك أن التريند أصبح أداة لإنتاج “أبطال مؤقتين”. أشخاص عاديون يتحولون بين ليلة وضحاها إلى “نجوم” لأنهم أجادوا لعبة الصخب أو لأنهم وقعوا في مأزق صور وبث على الهواء أو لأنهم رفعوا شعارا يوافق هوى الجماهير. لكن البطل الورقي لا يصمد طويلا: بمجرد أن ينتهي العرض يُطوى اسمه كما يُطوى برنامج السيرك القديم ويجلس الناس في انتظار عرض جديد. وفي هذا الدوران المستمر تتلاشى القيم الحقيقية ويُستبدل الوعي الزائف بالوعي الأصيل.

الوعي الحقيقي يبدأ حين يدرك الإنسان أن ما يشاهده ليس بريئا وأن التصفيق ليس دائما دليلا على النجاح وأن كثرة المقاعد الممتلئة لا تعني صحة العرض. في السيرك هناك مدير وراء الستار يعرف متى يدخل البهلوان ومتى يخرج الأسد ومتى ينفجر المدفع الورقي في السماء. وفي عالم التريند هناك من يدير الخيوط بدقة أكبر يحدد ما يُعرض ومتى وما يُرفع إلى القمة وما يُدفن في قاع النسيان.

إذن ما الحل؟ هل نهجر السيرك تماما؟
الحقيقة أن السيرك سيبقى والضجيج لن يتوقف لأنه جزء من طبيعة الحياة الحديثة. لكن الحل أن نتعلم “فن الفرز”: أن نحضر أحيانا لكن بوعي أن نضحك ونصفق دون أن ننسى ما وراء الضحكة والتصفيق أن نبحث عن النص المخفي لا العنوان العريض. أن نفهم اللعبة لا أن ننخدع بالعرض.

الأمة التي تريد بناء مستقبلها لا يمكن أن تكتفي بملء المقاعد بل عليها أن تصنع جمهورا يعرف متى يصفق ومتى يصمت متى يشارك ومتى ينسحب، متى يقرأ العناوين ومتى يتعمق في التفاصيل. الفرق بين شعب يقوده وعيه وشعب تقوده التريندات كالفرق بين من يكتب التاريخ ومن يكتفي بمشاهدته على شاشة صغيرة.

إن السيرك الكبير سيظل قائما لكن العقول الفارغة ليست قدرا محتوما. فكل مقعد قد يجلس عليه شخص يصفق اليوم يمكن أن يجلس عليه غدا شخص آخر يفكر يسأل يشك يبحث ويحوّل التصفيق إلى نقاش والانفعال اللحظي إلى وعي ممتد. هذه هي اللحظة الفارقة بين أمة تعيش في دوامة العروض وأمة تصنع عرضها الخاص وتقدمه للعالم.

في النهاية لسنا ضد السيرك ولا الترفيه ولا حتى التريند الذي يكسر رتابة الأيام. لكننا ضد أن يتحول المسرح الكبير إلى بديل عن العقل وأن تصبح المؤثرات البصرية والسمعية أقوى من الحقيقة ذاتها. ضد أن يمتلئ المسرح بالهتاف بينما تظل العقول خاوية بلا فكرة أو رؤية.

لقد آن الأوان أن ندرك أن قيمة الإنسان لا تقاس بعدد “الإعجابات” أو “المشاركات”، بل بما يتركه من أثر حقيقي في واقعه ومجتمعه. وأن الأمة التي تنشغل بالعرض أكثر مما تنشغل بالمضمون ستجد نفسها في النهاية تصفق لمن يسلبها وتضحك على مشاهد هي في حقيقتها مآس وتغادر المسرح كما دخلته: بلا وعي وبلا إضافة.

السيرك الكبير مستمر والمقاعد ستظل ممتلئة لكن العقول ليست مجبرة أن تظل فارغة. وعي واحد يضيء خير من ألف تصفيقة عابرة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى