أحمد صبري شلبي يكتب: سُبُل اَليقِين فِي قُلُوب الصَّائمين

جميعنا يعبد الله عبادةً غيبيةً تتجلى في أعماق القلوب ولا تدركها الحواس، فليس بيننا من رأى الله أو كلمه “عز وجل”، ومع ذلك، فإن إيماننا به قائم على اليقين المطلق بوجوده وألوهيته. واليقين هو الأساس الذي تقوم عليه العبادة، فهو الحبل المتين الذي يربط العبد بربه، فيجعله يؤمن بالله إيمانًا خالصًا، يلتزِم بأوامره ويتجنب نواهيه. ومن بين العبادات التي تعكس هذه الصلة الروحية العميقة بين العبد وربه، تأتي عبادة الصيام.
وما يميز الصيام عن غيره من العبادات، أنه لا يتطلب أداء حركات جسدية، أو مناسك محددة، أو تلاوة نصوص، بل يعتمد على الامتناع، أي على “عدم الأداء”، وهو في جوهره تمرين على ضبط النفس وإخلاص النية، مما يعزز من قوة اليقين في القلوب.
كما أوضحنا في مقالنا السابق “لماذا نصوم رمضان؟”، فإن الصيام يتجاوز كونه مجرد عبادة جسدية، ليصبح تجربة روحية ونفسية عميقة. ففي هذه التجربة، تسمو الروح على الجسد، وتتحرر من قيود المادة، ليتقرب الإنسان من خالقه. فعندما يمتنع الصائم عن الأمور المباحة، رغم قدرته على فعلها سرًا، فإنه بذلك يجسد أسمى معاني اليقين والإيمان بأن الله يراه في كل لحظة.
وهذا ما أكده الحديث القدسي: ” كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا الصِّيَامُ، فَإِنَّهُ لِي”.
إن خشية الله في السر، والامتناع عما يحل لنا في الخفاء، هو قمة الإيمان والإخلاص لله وحده.
الامتناع عن المقومات المادية وسيلة وليس غاية
عندما نمارس حياتنا اليومية بشكل طبيعي في رمضان، دون الحاجة إلى المقومات المادية الأساسية كالأكل والشرب، فإننا نختبر تجربة فريدة تقوي يقيننا بالله. فالصيام يذكرنا بأن هذه المقومات ليست سوى أسباب ظاهرة، وأن العون والمدد الحقيقي بيد الله وحده. هذا الإدراك يعزز ثقتنا بأنفسنا، ويمنحنا القدرة على التحكم في رغباتنا وشهواتنا، إرضاءً لله. ومن خلال هذا التحكم، تقوى أرواحنا، ويتوطد طريق اليقين بالله في قلوبنا. وهنا ندرك أن الامتناع عن المقومات الأساسية للجسد ليس غاية في حد ذاته، بل هو وسيلة لتقوية اليقين وتعميق الصلة بالله. فالصيام ليس مجرد اختبار للتحمل الجسدي، بل هو رحلة روحية تعلمنا أن نعتمد على الله في كل لحظة، وأن نثق بقدرته على تلبية حاجاتنا، حتى عندما تبدو الأسباب المادية غائبة
الصيام مدرسة الصبر واليقين
وأرى أن الصبر، الذي هو أساس فلسفة الصيام، يرتكز على اليقين بالله، والإيمان بأن للصبر أجراً وعوضاً، في الدنيا والآخرة. فبدون هذا اليقين، لن نفهم معنى الصبر، ولن نتعايش معه برضا. فالصيام هو أفضل تدريب للنفس على الصبر، لأنه يضعنا في مواقف نتحدى فيها رغباتنا وشهواتنا، ونختار الامتناع طاعةً لله. هذه المواقف تعزز فينا الإيمان بأن الله يرى صبرنا، ويقدر جهودنا، وسيكافئنا عليها. فالصائم الذي يتحمل الجوع والعطش، ويصبر على مغريات الحياة، يدرك بعمق أن صبره ليس مجرد تحمل جسدي، بل هو تجسيد لثقته المطلقة بالله، وإيمانه بأن الله لن يضيع أجره. هذه التجربة الروحية تزيد من قوة يقينه، وتجعله أكثر قدرة على مواجهة تحديات الحياة بصبر وثبات
وأخيرا، كلما تعمقت وتأملت في فلسفة اليقين، أدركت (من وجهة نظري الشخصية) أنه الغاية التي تسعى العبادات إلى تحقيقها. فاليقين هو الطريق الذي يقود الإنسان إلى التقوى. ولعل ذلك ما استشعره قلبي في مطلع سورة البقرة حينما تبرز الآية الكريمة السمة الأساسية والصفة الغالبة للإيمان حينما نكون موقنين:
“وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ”.
فاليقين هو مفتاح الإيمان الحقيقي، والطريق الذي يسير عليه العابد للوصول إلى مقام التقوى والرضا.