fbpx
معرفة

(فراشة الكمان).. وحلم العالمية

ياسر بهيج
ياسر بهيج

أحد أرزاق الله في الحياة، أن ترى النبتة الخضراء التي رويتها صغيرة، قد كبرت، ونضجت، واستوت على عودها، بعد مرور السنين.. تحولت بيد الخالق المبدع، من زهرة صغيرة جميلة، لم تتعدَ تسع سنوات، إلى أميرة يافعة، تضج بالأنوثة، ذات خمسة عشر ربيعًا..

ورغم أن ست سنوات ليست بالعلامة الفارقة في عمر الزمان، فإنها فارقة في عمر البشر، وخاصة عند التحول من الطفولة إلى الصبا والشباب.. فتلك الفترة العمرية بالذات تؤثر في كل شيء بكيان الإنسان، داخله وخارجه.. ملامحه التي تتغير، وأفكاره التي تنمو، وعقله الذي ينضج، وقلبه الذي يزهر، وقدرته التي تسمو وتعلو، لكن تظل الموهبة ثابتة، والسمات الشخصية راسخة.. لا تتبدل أبدًا..

الفراشة رنا عبدالوهاب، خرجت من شرنقة الطفولة، إلى حياة أكثر رحابة.. حياة الأنوثة.. رسمت ريشة الزمان على جسدها، وروحها، علامات وخطوطًا أكثر عمقًا، وجمالًا، لكن شيئًا واحدًا لم يتغير فيها، وظل كما هو، منذ شاهدتها، أول مرة، في العام ٢٠١٥ طفلة غضة، في الصف الثالث الإبتدائي، على مسرح عبدالمنعم مدبولي، تعزف على معشوقها الكمان، كما لم تعزف من قبل ، بكل أحاسيسها الدافقة ، كونشيرتو لمندلسون ، في افتتاح المسرح القومي للطفل ، بعد تطويره، لتعلن عن نفسها، أمام جمع غفير من رؤساء قطاعات الثقافة، والإعلاميين، وأسر أطفال المسرح، يتقدمهم وزير الثقافة وقتها، الكاتب الصحفي الكبير حلمي النمنم، الذي أشاد بأدائها المبدع، وكرمها، بمنحها شهادة تقدير لموهبتها الفذة، ليشد من أزرها..

شيء واحد فقط لم، ولن يتغير فيها، هو ضحكتها البريئة، التي ترتسم على وجهها، في كل أوان، ومكان.. حتى أصبحت سمة تلازمها فى كل مراحل حياتها، لاتفارقها، وتميزها عن كل أقرانها..

أتذكر أنني، وكنت وقتها محرر الأهرام في وزارة الثقافة، والجمهور، الذي ملأ المسرح عن آخره.. شاهدنا، وسمعنا إبداعًا منقطع النظير : وقفة ثقة على خشبة المسرح كالمحترفين.. أنامل رقيقة لكنها تقبض على القوس والكمان بقوة المبدعين.. تعايش مذهل مع المقطوعة الموسيقية يفصلها عن الواقع.. أداء حركي وجسدي مرن متناغم مع كل نغمة ساحرة تخرج بمنتهى الانسيابية، فتتغلغل في نفوسنا، كالماء يروي عطشنا في صحراء الحياة القاحلة ..

هِمْنا معها، ونحن مبهورون مشدوهون، لا نحرك ساكنًا.. نحدق فيها، وكأنّ على رؤوسنا الطير، حتى انتهت من تدفق شلال إبداعها، والمسرح كله صامت ، لتدوي عاصفة من التصفيق لاتتوقف.. مصحوبة بابتسامات الإعجاب على كل الشفاه..

أخذت أصفق بشدة مع الجمهور من فرط الإعجاب، وما إن انتهيت حتى تحركت بداخلي حاستي الصحفية، تبحث عن تلك الموهبة الفذة، لتكتشفها ، وتعلن عنها لمصر كلها، وليس جمهور المسرح فقط..

ظللت أبحث.. وأبحث، لكن دون جدوى! حتى وجدت أمامي صديقي العزيز مايسترو التصوير الفوتوغرافي مصور وزير الثقافة وقتها محمد عبد الله، وقد انتبه لحيرتي، فذهب إلىّ متسائلًا عن السبب، ولما أخبرته عن ضالتي، ارتسمت ابتسامة الثقة على وجهه، وهو يهديني لما أبحث عنه، فالفراشة التي كانت تحلق في سماء الإبداع، منذ قليل، ابنة مسؤولة في مسرح الطفل، اسمها منى أبو العلا ، يعرفها منذ زمن !!

جذبني من ذراعي جذبة قوية، وهو يشدني باتجاه أمها، حتى وصلنا إليها، وعرَّفها بي، وأخبرها بأنني أريد أن أقابل رنا، لأكتشف فيها جينات الإبداع، فإذ بها تضحك ضحكة السعيد، الذي وصل لمبتغاه، فهي أيضًا كانت تبحث عمن يُخرِج موهبة ابنتها من قيود الروتين، ويُطْلقها للعلن ..

وسرعان ما كنت معها خلف الكواليس، وأمامي رنا بابتسامتها الرقيقة، وصوتها البرئ الممزوج، بالرقة، والرهافة.. التقطت معها عدة لقطات، وأنا أعلن لها، ولأمها، أنني قررت أن أكتب ريبورتاج عنها.. عن تلك الموهبة المعجونة بالإبداع، على صفحات الأهرام.. شهقت الفراشة غير مصدقة، وأتبعتها أمها بعبارات التمني، ولسنها يلهج بالشكر لي..

أعود سريعًا للبيت وكأنني أحلم.. غير مصدق بوجود أطفال موهوبين في مجال العزف، لدرجة التمكن والإبداع، وخلال ساعة كان الريبورتاج جاهزًا، مكتوبًا، أنيقًا، ينتظر النشر، وفي اليوم التالي كان بيد رئيسة قسم الصفحة الأخيرة، التي انبهرت بكلماتي عن رنا، وتحمست لها، ووعدتني بنشرها في أقرب وقت..

تمر الأيام، وتطول ، وأنا أنتظر على أحر من الجمر، حتى خرج الريبورتاج أخيرًا إلى النور، ليعلن لمصر كلها، خروج موهبة الكونسرفتوار الفذة، من جرّة المجهول، إلى فضاء الشهرة والمجد..!

طوال مدة الانتظار ، وأنا متواصل مع والدتها تليفونيًّا، أطمئنها بخروج الريبورتاج قريبًا، وما إن خرج حتى صحت صيحة الانتصار، وحادثتها فورًا وبشرتها، وكعادة الصحفيين مع مصادرهم، استقطعت لها عدة نسخ من عدد الجريدة، الذي نشرت فيه كلماتي عنها..

أحدث الريبورتاج دويًّا هائلًا.. فقد كرمت أكاديمية الفنون ابنتها، وتلميذتها الأولى في العزف على الكمان، ونشرت الريبورتاج في لوحة الشرف أمام كل الطلبة والطالبات، وقبلهم الأساتذة، وبعدها انهالت الاتصالات التليفونية للقنوات الفضائية من كل حدب وصوب على والدة الفراشة، تطلب استضافتها في برامجها.. بدأت مع المذيعة اللامع منى الشاذلي في برنامجها المشهور “مع منى الشاذلي”، ثم قناة الحرة، فالعربية، وبعدها مع المذيع الكبير عمرو أديب، في برنامجه المشهور “الحكاية”، على قناة MBC، وظهرت رنا، وأسرتها ع شاشات التليفزيون، لأول مرة، ودارت عجلة الشهرة دورتها الكاملة، استعدادًا للانطلاق ع مضمار الحياة الحقيقية، التي تستحقها بجدارة..

ومن هناك.. من مسرح الطفل، وضعت بنت النيل قدميها على سلم التألق، وخطت أولى خطواتها ، بالعزف في دار الأوبرا المصرية، لتنعقد الشفاه من الدهشة  من فرط روعة أدائها، وسلاسة عزفها، ومنها إلى المركز الثقافي الروسي، لتزداد تألقًا ونورًا، وهي تبدع عزفًا مع من هم أكبر منها سنًا، وتتبارى معهم، وتتفوق عليهم، وفي كل مرة تعود لمعهدها، ومعها الشهادات التقديرية، تزين صدرها، الواحدة تلو الأخرى، فيزيدها المعهد منها أكثر وأكثر.. حينها فقط أيقنت رنا أنها قادرة على أن تسمع صوتها لكل العالم، وتبدأ رحلة الشهرة..

وتوالت السنوات ، وهي تتدرج في المراحل الدراسية المختلفة، مع أساتذة العزف المصريين المهرة، تتلقفها يد خبيرة، وتثريها، لتسلمها إلى أخرى، حتى وصلت إلى الصف السادس الابتدائي، وقد نضجت الموهبة، واستوت الزهرة على عودها، على يد الخبير الروسي مارلس يونسخانوف، الذي انبهر بها، منذ رآها، وآمن بموهبتها، فتلقفها بالتدريب المكثف.. يشجعها، ويحمسها، ويلهب طاقتها، حتى بلغت مراتب الاحتراف.. تعزف ببراعة أصعب الكونشيرتات لرواد الموسيقى الكلاسيكية : فيفالدي .. زايتس .. كولاي … وغيرهم كثيرون..

وفي ذلك التوقيت الدقيق ، يطل برأسه دور الأم الرائع، من نافذة الحياة الصعبة، لتدفع بابنتها إلى الأمام، تحفزها، وتثبت قلبها، وتشعرها بالدفء،والاحتواء والأمان، وتجسدت روعة هذا الدور، في إصرارها على عبقرية ابنتها ، وإيمانها بها ، حينما لبت رغبة مدرسها الروسي الأثير، على أن تحمل كمانًا يليق بها وبموهبتها، فألقت بأعباء الحياة خلف ظهرها، واشترت لها كمانًا إيطاليًّا فاخرًا، من أغلى الماركات، غير مبالية بماينوء به كاهل الأسرة الصغيرة المكافحة من أثقال، وأحمال المعيشة، لأنها أيقنت أنها تضع مالها في أرض خصبة، كلما ارتوت، أخرجت أينع الثمار..

طالت الرحلة، بقيادة المايسترو الروسي مارلس، الذي حفر بداخلها نهر الإبداع، حتى أضحى لها الأب الروحي في الفن.. أضاف لشخصيتها الكثير والكثير في العزف : الثبات، والمثابرة، وعدم الالتفاف للآخرين، والعمل في صمت، والحرص على الوصول إلى كامل الإتقان، لدرجة تجنب توافه الهفوات، فباتت أكثر دقة، وقوة، وسرعة، ولمعانًا، كعازفة كمان، تخطت بموهبتها كل الأعمار..

وبعد أمها، كل حياتها، وقائدة مسيرة الإبداعية، كانت، على الجانب الآخر من الحياة، أسرتها الصغيرة : أباها أحمد عبدالوهاب.. حبها الأبدي، فهي الروح التي خرجت من روحه، وكلما فاحت تلك الروح إبداعًا، زاد تعلق روحه بها، وهام فيها.. سابحًا بها في فضاء الحياة، بحبه، وحنانه، واهتمامه، يملؤها أحلامًا وراء أحلام.. يراها واقعًا بعين المستقبل البعيد.. نجاحات.. إشراقات.. من مكان لمكان، ومن زمان لزمان، وفي كل مرة ينتظر منها المزيد والمزيد من الحب والإبداع.. يعطر بهما داخله، فتكون له السلوى التي تعينه على الدنيا بأسرها..

أما محمد أخوها الكبير، فهو لها نهر العشق، الذي لاينتهي.. لم يفارقها يومًا في مسيرة الإبداع.. في ظهرها دائمًا.. يشحذ همتها.. يقوي إرادتها ضد كل ما يحاك خلفها لإيقاف مسيرتها.. يقف في وجه كل من يريد بها سوءًا.. يملأ داخلها طاقة إيجابية هائلة قبل كل حفل، فتنطلق بأناملها الذهبية كالنسر المحلق ، في سماء أي معترك فني، لتدهش الأبصار، وتخلب العقول، وهو خلف الكواليس، أو أمامها في صالة المسرح قريبًا منها، يدفعها إلى الأمام بقوة، بنظراته، ودقات قلبه، وكل خلجات نفسه..

لم يكن بالنسبة لها مجرد شقيق ، حمله نفس البطن الذي أنجبها ، بل كان لها سندًا وحبيبًا وظهرًا، وجبلًا سامقًا خلفها، فلم يفترقا أبدًا ، حتى أصبح الشقيقان محمد ورنا ، رغم فارق السن الكبير نسبيًّا بينهما، الذي يبلغ أكثر من ١٠ سنوات كاملة، كالجسد الواحد بقلب وعقل واحد.. هو يقرؤها من عينيها قبل أن تتكلم، وهي تفهمه من نظرة قبل أن يتفوه بكلمة.. حديث العيون جعلهما كالتوءم المتلاصق..!

ولأنه توءمها في الحياة، فهو يدلو بدلوه في كل خطوات مستقبلها الموسيقي، ويؤخذ رأيه في كل مشاركاتها المحلية والعالمية.. يعتمد عليه الأبوان في إنجاز أي أمر، وحل أي معضلة، بمهاراته في التواصل مع مدربها الروسي، وضيوف حفلاتها من مختلف دول العالم، من خلال إتقانه عدة لغات، وذكائه الحاد في استشراف الأمور ، حتى بات الجسر الذي يعبر عليه الجميع إلى النجاح والتفوق والشهرة، فبدونه ما كان اكتمل بناء الإبداع، ولا حلقت الفراشة في سماء العالمية..

تمر السنوات تلو السنوات، لا أحسبها، وأنا معها في كل مكان، لا أفارقها.. هي تحمل الكمان، وأنا وراءها كالجندي يحمل سلاحه، يفتح لها طريق الصيت، وسلاحي هو القلم، ومن نصر إلى نصر.. وإنجاز وراء إنجاز.. اجتازت محطاتها سريعًا، وبمنتهى الثقة والتمكن، وفي كل مرة تحقق الأحلام تلو الأحلام، حتى وصلت إلى حلم العالمية في روسيا، لتبدأ حكاية أخرى، أكثر إثارة..

سافرت الفراشة إلى روسيا معقل الموسيقى الكلاسيكية العالمية، بصحبة مدربها الروسي، لتنافس في مسابقة مهرجان “كسارة البندق” العالمية.. ولم تكن الفراشة المصرية تمثل مصرها الحبيبة فحسب، بل كانت العربية الوحيدة التي شاركت في المسابقة، ممثلة لبلدها، ووطنها العربي الكبير .. حاملة أحلام 100 مليون مصري، و300 مليون عربي، وهناك قضت 14 يومًا كاملة شاقة من التدريب والمنافسة مع نوابغ أعظم دول العالم في الموسيقى العالمية.. دخلت المنافسة وكأنها جندي محارب، وليست صبية رقيقة ناعمة، لم تتعدَ وقتها الثالثة عشرة من عمرها .. حملت مسئولية الكبار ع كفيها الصغيرين.. تألقت وأبدعت وشرفت مصر أمام أعظم محكمين وخبراء عالميين في دنيا العزف، وجمهور عاشق لإبداع الموسيقى وسحرها..

ورغم ذلك أخطأتها الكأس، ولكنها عادت، وفي جعبتها المركز الخامس بين أمهر 9 عازفي كمان في مثل عمرها على مستوى العالم، وشهادة تقدير، وإشادات دولية بها وبمستوها القوي  وبأسلوبها الرشيق في العزف، من خبراء العزف العالميين، وهم يتنبؤون لها بانطلاقة عالمية لن تتوقف، ومستقبل باهر في عالم الكمان، وإنجازات شاهقة على مر الأيام.. لقد كان إنجازًا عظيمًا، وفخرًا لا يدانيه فخر، لأنها حققته في أول مسابقة عالمية تخوضها في حياتها..

وفجأة.. مات مستر مارلس، مدربها وأبوها الروحي، فودعته في هدوء وثبات، وهي تعاهده على أن تكمل مسيرة التألق، لتحقق وصيته لها، في أن يراها – كما كان يحلم – العازفة الأولى في العالم، وصدى صوته يتردد كل يوم في أذنيه :

“كوني أنتِ.. لا تقلدي أحدًا.. ولا تلتفتي للآخرين”

تمر الأيام بعده، وقد تلقفتها أيادي أبرع عازفي الكمان في مصر والعالم العربي المايسترو حسن شرارة، بالعناية، والرعاية، والاحتواء، وتبناها فنيًّا، ليخرجها من أحزانها على رحيل مدربها الروسي، ويعيد إليها من جديد شرارة التألق في الحياة، ويمنحها فرصة العمر، بمساعدة رئيس الأوبرا الحالي الدكتور الكبير مجدي صابر، الذي آمن بموهبتها، بالعزف على المسرح الكبير..

وبالفعل.. حلِّقت الفراشة نجمة الكونسرفتوار الأولى إبداعًا في سماء المسرح الكبير، وهي تعزف، ومن خلفها أوركسترا الأوبرا الأول، في تجربة الثقة والثبات الإنفعالي والنضج الفني المرعبة، فتنجح نجاحًا مبهرًا، وهي تقهر التوتر والرهبة، وأناملها الساحرة تلامس باحترافية أوتار الكمان، فتنساب منها أروع النغمات..

حتى جاءت لحظة العمر، في بدايات العام الحالي، حملتها لها وزيرة الثقافة النشيطة الدكتورة إيناس عبدالدايم، عندما قدمت للدولة اقتراحًا بتخصيص جوائز للمبدعين الصغار، أسوة بالكبار، آمنت به حرم رئيس الجمهورية السيدة انتصار السيسي، فكانت جائزة “المبدع الصغير”، التي انطلقت تحت رعايتها، في مجالات الأدب والفنون والتكنولوجيا، لزهور المبدعين، من عمر ٥ إلى ١٨ سنة، وبدأ بالفعل التقدم لمسابقتها، وعلى مدار شهور استمعت لجان التحكيم، التي تكونت من أعتي الأسماء في مجالات المسابقة، لآلاف المبدعين، من مختلف أنحاء مصر..

وقتها أيقنت أن أحلامها مازالت طائرة تحلق في السماء، ولن تهبط أبدًا على أرض الواقع.. تحدت نفسها تحديًّا غير مسبوق .. استنفرت في داخلها كل مكنون طاقتها .. عزفت كأن لم تعزف من قبل .. أخرجت تراكم موهبة السنين .. عاشت حالة خاصة من التركيز الشديد على خشبة مسرح المسابقة، لدرجة أنها لم تَر المحكمين، الذين بدوا صامتين، منذ بدأت عزفها أمامهم، وكأنهم على رؤوسهم الطير .. مبهورين من فرط الإبداع، وهم يَرَوْنها تتماوج بكل كيانها ومشاعرها وروحها مع ماتخرجه من أنغام ساحرة تخلب الألباب، لتنتهي حالة الصمت بتصفيق حاد عقب المقطوعة التي عزفتها باحترافية رائعة..

قدمت أداء يعجز عن وصفه القلم .. تجاوزت به كل الصعاب والمعوقات التي واجهتها في مسيرتها الفنية الإبداعية الصغيرة .. لم تفكر سوى في النجاح الفائق والتألق، وهي تعلم جيدًا أنها تحت منظار أساتذة العزف من الأوبرا وأكاديمية الفنون، ولابد أن تبهرهم، وهذا ما حدث وأكثر، وتحقق انتصارًا ساحقًا ماحقًا على كل منافسيها..

وبعد أيام، تعلن وزيرة الثقافة، في حفل مهيب، حضرته قيادات من الدولة والثقافة، فوز الفراشة بجائزة الدولة للمبدع الصغير، في مجال العزف على الكمان، لتصعد في ثقة المبدعين، وتتسلم الجائزة، والفرحة تسبقها، بأنها حققت أعتى أحلامها..

أفقت من شرودي، وأنا في المسرح الكبير، على وقع أقدمها، تقترب مني، بعد النزول من فوق خشبة المسرح، وهي تحتضنني بشدة ، وتقول لي بصوتها الرقيق الحاني : “وحشتني” ، كما عودتني قبل كل نصر تحققه ، وأنا ابتسم لها من السعادة ، وألقي على مسامعها كلمات الإطراء والتشجيع، والتقط معها كعادتي لقطة الذكرى في كل انتصار جديد..

رنا الآن في الخامسة عشرة من عمرها، بعد مسيرة ثماني سنوات من الكفاح، والمثابرة، والإبداع، كللتها بجائزة المبدع الصغير، وهي اعتراف من الدولة بموهبتها وتفوقها، فهل تكلل مصر لفراشتها مسيرتها العظيمة بتحويل حلم الأحلام إلى واقع، واستكمال ابداعها في روسيا على نفقة الدولة..؟ فقد تصبح يومًا محمد صلاح الكمان في العالم بأسره، وتصل بمصر إلى سماء العالمية، تزينها بإبداعها، لتعود بعدها إلى بلدها “بروفيسور” مرفوعة الرأس، وتتنقل، كخير سفير لمصر، من بلد إلى بلد.. حاملة بداخلها عزة نفسها، وثقتها الشديدة بنفسها، وجينات أجدادها رواد الحضارة والإبداع.. الذين سبقوا كل بلاد الأرض بآلاف السنين، وإيمانها بقدرة ربها في أن تكون يومًا ما “سيدة الموسيقى الكلاسيكية” بالتعب والعرق والمثابرة والاجتهاد، لتحقق ليس حلمها فحسب، بل أحلام كل من اكتشفها وساعدها، ولم يتركها يومًا.. إيمانًا بموهبتها، وأنا منهم، وتحقق، في الوقت ذاته، وصية مدربها الراحل..

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى