
إعداد: رحمه حمدى
بينما تتغنى الحكومات الخليجية بـ”السياسات المالية المحكمة”، تكشف الوقائع عن مغامرة مالية غير محسوبة تدفع اقتصادات المنطقة نحو حافة الهاوية. هذا التقرير يكشف بالأرقام كيف تحولت دول الخليج من أغنى اقتصادات العالم إلى مدمنة للاقتراض، مستهينة بتحذيرات المؤسسات المالية الدولية، ومتجاهلة العواصف المالية التي تجتاح الأسواق العالمية.
السعودية: إدمان مقلق للديون تحت غطاء “رؤية 2030”
توقع بنك “جولدمان ساكس” الأمريكي ارتفاع إصدارات السعودية من الديون الخارجية إلى نحو 16 مليار دولار سنوياً في المتوسط خلال السنوات الثلاث المقبلة، مقارنة بـ 10 مليارات دولار سنوياً في السنوات الأخيرة، مدفوعاً بتوسع عجز الميزانية نتيجة انخفاض إيرادات النفط وزيادة الإنفاق. وأوضح البنك في تحليل له أن من المتوقع أن تصل الإصدارات في 2024 إلى 20 مليار دولار، بعد إصدار سندات بقيمة 12 مليار دولار مطلع العام. بينما قد تنخفض إلى 13.5 مليار دولار في 2025، ثم ترتفع قليلاً إلى 14.5 مليار دولار في 2026.
وأوضح التحليل أن أسباب العجز المتنامي ترجع إلى، ارتفاع الإنفاق الجاري (يساهم بـ+2.6 نقطة مئوية في العجز)، وتراجع إيرادات النفط (يضيف +1.7 نقطة مئوية)، بالإضافة إلى زيادة الإنفاق الرأسمالي (يؤثر بـ+0.6 نقطة مئوية)، مع انخفاض إنتاج النفط إلى 9 ملايين برميل يومياً واستقرار الأسعار عند 80 دولاراً، ووصل العجز إلى 4.3% من الناتج المحلي الإجمالي في 2024 مقارنة بـ 2% في 2023.
وبحسب تقديرات جولدمان ساكس من المتوقع أن يرتفع إجمالي الدين الحكومي إلى أكثر من 32% من الناتج المحلي الإجمالي بحلول 2026 مقارنة بـ 26% في 2023، من جانبه، قال عمر باحليوه، الرئيس لدى ديوان الأعمال الأساسية للاستشارات الاقتصادية، في مقابلة مع “العربية Business”، إن المملكة تعتمد حالياً على الاقتراض بدرجة أكبر مقارنة بالاعتماد على الاحتياطيات النقدية، في إطار استراتيجيتها المالية الشاملة.وفي تقرير للـ “المركز الوطني لإدارة الدين” وبلغت الديون المباشرة القائمة على الحكومة في نهاية ديسمبر 2024 (1,215.9) مليار ريال سعودي (324.2 مليار دولار أمريكي) منها (738.3) مليار ريال سعودي (196.9 مليار دولار أمريكي) ديون محلية و (477.7) مليار ريال سعودي (127.4مليار دولار أمريكي) ديون خارجية وبلغت الديون المباشرة القائمة على الحكومة في نهاية مارس 2025 (1,328.8) مليار ريال سعودي (354.3 مليار دولار أمريكي) منها (797.1) مليار ريال سعودي (212.6 مليار دولار أمريكي) ديون محلية و (531.7) مليار ريال سعودي 141.8) مليار دولار أمريكي) ديون خارجية.
ووفقاً لتقرير نشرته “الشرق بلومبرج”، فإن الدين العام السعودي شهد ارتفاعاً ملحوظاً ليصل إلى 1.157 تريليون ريال (حوالي 308.5 مليار دولار) مع نهاية الربع الثالث من العام الجاري 2024. تمثل هذه القيمة زيادة قدرها 107 مليارات ريال (حوالي 28.5 مليار دولار) مقارنة بمستوى الدين في نهاية العام الماضي 2023، مسجلاً بذلك أعلى مستوى للدين العام في تاريخ المملكة العربية السعودية، وذلك بحسب البيانات الرسمية الصادرة عن وزارة المالية السعودية والتي تم الإعلان عنها اليوم.
وأوضحت “بلومبرج” في تقريرها أن الحكومة السعودية تتجه بشكل متزايد نحو خيار الاقتراض لتمويل وتسريع وتيرة المشاريع التنموية الكبرى، وذلك في وقت يتوافد فيه عدد كبير من المسؤولين الماليين من وول ستريت إلى العاصمة الرياض.
يأتي هذا التوجه في ظل التحديات الاقتصادية التي تواجهها المملكة، بما في ذلك انخفاض أسعار النفط، وعجز الميزانية المستمر، والصعوبات في جذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة، مما يدفعها للاعتماد بشكل أكبر على أسواق الديون لتمويل مشاريعها.من جهة أخرى، كشفت البيانات الصادرة عن وزارة المالية السعودية عن تضاعف عجز الميزانية الفصلي ليصل إلى 30 مليار ريال (8 مليارات دولار). حيث سجلت الميزانية السعودية عجزاً للربع الثامن على التوالي، حيث أظهرت البيانات الرسمية الصادرة مساء اليوم أن عجز الربع الثالث من العام 2024 بلغ 30.2 مليار ريال، وهو ما يعادل تقريباً ضعف عجز الربع السابق منه. ويعزى هذا الارتفاع في العجز إلى الانخفاض الملحوظ في الإيرادات النفطية والإيرادات غير النفطية على حد سواء.
الإمارات: فقاعة ديون تنتظر الانفجار
كشفت وكالة التصنيف الائتماني العالمية “إس آند بي جلوبال ريتنجز” (S&P Global Ratings) عن توجه الحكومة الاتحادية لدولة الإمارات العربية المتحدة وإمارة أبوظبي لإصدار سندات دين مقومة بالدرهم الإماراتي خلال الفترة المقبلة. يأتي هذا التحرك في إطار استراتيجية أوسع تهدف إلى تطوير سوق أدوات الدين المحلية وتعزيز منحنى العائد بالعملة المحلية، مما يسهم في تعميق الأسواق المالية المحلية.
وأفادت الوكالة في تقريرها التحليلي التفصيلي أن الحكومة الاتحادية وحكومة أبوظبي تخططان للإصدار المشترك لأكثر من 8 مليارات دولار (ما يعادل حوالي 29.4 مليار درهم) من السندات المحلية خلال عام 2025. هذا الإصدار يأتي ضمن خطة شاملة للتمويل الحكومي تتضمن إجمالي إصدارات ديون تصل إلى حوالي 18 مليار دولار (66.1 مليار درهم) من قبل مختلف الحكومات المحلية في الإمارات والحكومة الاتحادية خلال العام ذاته، مسجلاً انخفاضاً طفيفاً عن إجمالي الإصدارات في عام 2024 والتي بلغت حوالي 19 مليار دولار.
تتوقع “إس آند بي” أن تشهد إمارة الشارقة إصدار ديون جديدة لتغطية عجز مالي متوقع في ميزانيتها لعام 2025 يقدر بنحو 6.3% من الناتج المحلي الإجمالي للإمارة. وأشار التقرير إلى أن سوق أدوات الدين بالدرهم الإماراتي، رغم أنها لا تزال في مراحل التطور الأولى خاصة فيما يتعلق بالإصدارات المحلية، إلا أنها تشهد نمواً وتوسعاً مطرداً.
فمنذ أن بدأت الحكومة الاتحادية في إصدار أدوات الدين عام 2021، تم طرح ما يقرب من 27 مليار درهم (7.3 مليار دولار) من السندات والصكوك بالعملة المحلية، وهو ما يمثل حوالي 42% من إجمالي إصدارات الدين خلال تلك الفترة.
ولفتت الوكالة إلى بعض الإصدارات البارزة بالدرهم، بما في ذلك إصدار إمارة الشارقة في يوليو 2024 لصكوك إسلامية طويلة الأجل بقيمة مليار درهم، وكذلك إعادة إصدارها في مايو 2024 لشهادات صكوك قصيرة الأجل بقيمة 7 مليارات درهم. ومع ذلك، لا تزال الغالبية العظمى من ديون الحكومة الاتحادية والإمارات مقومة بالدولار الأمريكي ومملوكة بشكل أساسي من قبل مستثمرين ومؤسسات مالية خارج الدولة.
وحذرت الوكالة من أن البيئة الاقتصادية العالمية الحالية التي تتسم بعدم اليقين قد تعرض بعض الإمارات، وخاصة الشارقة، لمخاطر ارتفاع تكاليف الاقتراض في حال الاعتماد المفرط على أسواق المال الدولية. وتعد الشارقة من بين أكثر الحكومات المصنفة ائتمانياً من حيث ارتفاع مستوى المديونية، حيث يقدر الدين الحكومي الصافي بنحو 50% من الناتج المحلي الإجمالي للإمارة، بينما تصل نسبة خدمة الدين (أقساط وفوائد) إلى حوالي 30% من إجمالي الإيرادات الحكومية، وهي من بين أعلى النسب بين الدول السيادية التي تقوم الوكالة بتصنيفها.
ورغم ذلك، لاحظت الوكالة أن الإصدارات الأخيرة للشارقة من الصكوك الإسلامية قد لاقت قبولاً وترحيباً واسعاً من قبل المستثمرين.وبحسب بيانات “بلومبرج” التي استشهدت بها الوكالة، فإنه على الرغم من الضغوط الناتجة عن انخفاض أسعار النفط، من المرجح أن تواصل معظم الإمارات التزامها بسياسات مالية حذرة مع الحفاظ على موازنات مالية قوية.
لذلك، فإن العديد من الإصدارات المتوقعة قد تكون انتقائية في طبيعتها وتعتمد بشكل كبير على ظروف السوق السائدة وقت الإصدار. فعلى سبيل المثال، قد تختار أبوظبي سداد جزء من ديونها المستحقة هذا العام والمقدرة بنحو 6 مليارات دولار باستخدام حصيلة الإصدارات الجديدة بدلاً من اللجوء إلى الاحتياطيات النقدية. أما دبى سددت 1.2 مليار دولار من ديونها في الربع الأول من 2024، ومن المتوقع إصدار ديون جديدة ابتداءً من 2026 ، ورأس الخيمة أصدرت صكوكًا إسلامية بقيمة مليار دولار (10 سنوات) في مارس 2024 لإعادة تمويل دين سابق.
كشف بشار الناطور، الرئيس العالمي للتمويل الإسلامي في وكالة “فيتش للتصنيف الائتماني”، عن تحقيق سوق الدين في دولة الإمارات العربية المتحدة نمواً ملحوظاً خلال عام 2024، حيث بلغت القيمة الإجمالية للسندات والإصدارات المالية في السوق الإماراتي حوالي 300 مليار دولار أمريكي. جاء ذلك خلال مقابلة خاصة مع قناة “العربية Business”، حيث قدم الناطور رؤية شاملة حول تطورات سوق الديون في الدولة.وفي سياق متصل، كشف أحدث التقارير الصادرة عن وكالة “فيتش للتصنيف الائتماني” عن تجاوز حجم سوق الدين في الإمارات حاجز 300 مليار دولار أمريكي خلال العام الجاري 2024، مسجلاً بذلك معدل نمو يتجاوز 10% مقارنة بعام 2023.
ولفت التقرير إلى ظاهرة مهمة في السوق الإماراتي، حيث أشار إلى أن إصدارات الدين بالعملة المحلية (الدرهم الإماراتي) من قبل الشركات والبنوك المحلية لا تزال محدودة نسبياً، على الرغم من بدء بعض الشركات الكبرى في الدخول إلى هذا السوق تدريجياً. وفسرت الوكالة هذا الأمر بأن الثقافة التمويلية في الدولة لا تزال تعتمد بشكل أساسي وكبير على التمويل المصرفي التقليدي عبر البنوك، مما يحد من تنوع أدوات التمويل المتاحة.
وفقاً لـ “بلومبرج” إن حكومات الإمارات أصبحت الأكثر اقتراضاً على عكس العام الماضي، حيث تتجه إلى الاقتراض بشراهة، وتبدو مُصممةً على مواصلة إصدار أدوات الديون بكثافة خلال العام الجديد. بينما أصدرت الشركات والجهات السيادية في الإمارات -التي تُعد من أعلى الأسواق الناشئة تقييماً- أدوات دين بقيمة 38.4 مليار دولار هذا العام.ارتفع إصدار أدوات الدين بنسبة 54% على أساس سنوي وهو الأعلى منذ التوسع في طلب التمويل إبان فترة كوفيد 19 في عام 2020، حسب البيانات التي جمعتها “بلومبرج”. وأصبحت الإمارات الأكثر اقتراضاً
قطر: لعبة خطيرة مع الدائنين
سجلت الموازنة العامة لدولة قطر فائضاً مالياً بلغ 930 مليون ريال قطري (ما يعادل حوالي 255.41 مليون دولار أمريكي) خلال الربع الرابع من عام 2024، وفقاً للبيانات الرسمية الصادرة عن وزارة المالية القطرية يوم الخميس. ومن المقرر توجيه هذا الفائض بالكامل نحو سداد أجزاء من الدين العام للدولة، مما يعني عدم وجود فائض نقدي فعلي متاح للاستخدام في مشاريع أخرى.
جاء تحقيق هذا الفائض المحدود في ظل انخفاض متزامن في كل من الإيرادات والمصروفات الحكومية خلال الفترة نفسها. حيث بلغ إجمالي الإيرادات الحكومية في الربع الأخير من العام حوالي 48.7 مليار ريال (13.3 مليار دولار)، مسجلاً انخفاضاً بنسبة 12.5% مقارنة بنفس الفترة من العام السابق 2023. من جانب النفقات، انخفض إجمالي المصروفات الحكومية إلى 47.8 مليار ريال (13 مليار دولار)، بنسبة تراجع تبلغ 12.0% على أساس سنوي.وفي مجال المشتريات الحكومية، بلغت القيمة الإجمالية لأعمال المناقصات والمزايدات التي أجرتها الجهات الحكومية المختلفة خلال الربع الرابع من عام 2024 حوالي 6.4 مليار ريال قطري. كما سجلت قيمة التعاقدات الموقعة مع الشركات المحلية 4.8 مليار ريال خلال الفترة نفسها، مما يمثل انخفاضاً بنسبة 36.84% مقارنة بالربع المماثل من عام 2023.ووفقاً لتقارير شبكة “سي إن بي سي” الاقتصادية، من المتوقع أن تسجل الموازنة العامة لقطر لعام 2025 عجزاً مالياً يقدر بـ 13.2 مليار ريال، وهو أول عجز تظهره الموازنة القطرية منذ عام 2021.
علق محمد فهيم، عضو جمعية المحللين الماليين المعتمدة في قطر، على هذه الأرقام مشيراً إلى أن انخفاض الإيرادات بنسبة 12% في الربع الثاني من عام 2024 يعزى بشكل رئيسي إلى تراجع أسعار النفط إلى حوالي 60 دولاراً للبرميل، مقارنة بـ 65 دولاراً للبرميل في عام 2023. وأوضح في مقابلة مع “العربية Business” أن هذا التراجع في الإيرادات يرجع إلى العوامل السعرية العالمية وليس له علاقة بزيادة الإنتاج من حقل الشمال للغاز، خاصة وأن قطر قد أبرمت عقوداً طويلة الأجل لتغطية إمدادات الحقل.
وأضاف فهيم أن الإنفاق الحكومي في الموازنة شهد تراجعاً بنسبة 7% على المشاريع، وبنسبة 18.5% على أساس سنوي فيما يتعلق بالمصاريف الرأسمالية.في يناير 2024، اختتم المجلس التنفيذي لصندوق النقد الدولي مشاورات المادة الرابعة مع قطر. وأكد الصندوق أنه في ظل انخفاض أسعار الهيدروكربونات، تراجعت فوائض الحساب الجاري والمالية العامة في قطر خلال عام 2023 إلى 17% و5.5% من الناتج المحلي الإجمالي على التوالي، مع استمرار هذا التراجع خلال عام 2024.
ومع ذلك، توقع الصندوق أنه على المدى المتوسط، ومع التوسع الكبير في إنتاج الغاز الطبيعي المسال الذي تشهده قطر، ستستمر فوائض الحساب الجاري والمالية العامة، وإن كانت بنسب أقل من الناتج المحلي الإجمالي بسبب الانخفاض المتوقع في أسعار الهيدروكربونات.منذ تطبيق تدابير مصرف قطر المركزي الرامية إلى خفض صافي الالتزامات الأجنبية قصيرة الأجل، شهدت ودائع غير المقيمين في البنوك تراجعاً كبيراً.
كما عملت البنوك على تمديد متوسط آجال استحقاق التمويل ومواصلة تنويع مصادر التمويل الأجنبي. وظلت نسبة القروض المتعثرة في القطاع المصرفي مستقرة عند أقل من 4%، بينما سجلت نسبة تغطية المخصصات مستويات مرتفعة نسبياً تجاوزت 80%.
تشير تقييمات البنك الدولي إلى أن الاقتصاد القطري يواجه مخاطر متوازنة، تتركز الجوانب السلبية في العوامل العالمية مثل تباطؤ النمو العالمي، وتقلبات الأسواق المالية وأسعار السلع الأساسية، بالإضافة إلى التوترات الجيوسياسية.
ورغم محدودية تأثير الصراعات الإقليمية المباشر على قطر، إلا أنها أثرت سلباً على السياحة والتدفقات الرأسمالية وتقلبات أسعار النفط والغاز. على الصعيد المحلي، يُعتبر ضعف قطاع العقارات مصدراً رئيسياً للمخاطر، لكن قطاع السياحة القوي والإصلاحات السياسية خلال 2023 قد تخفف من هذه التحديات.
صحوة متأخرة أمام الهاوية المالية
تشير كل المؤشرات إلى أن اقتصادات الخليج تقود نفسها إلى فخ الديون الذي أطاح بدول عديدة من قبل. الأرقام لا تكذب الدين العام السعودي يتضاعف بسرعة مخيفة، واحتياطيات الإمارات تتراجع رغم عوائد النفط القياسية، والمصارف القطرية تعاني من شح الدولار.
والنتيجة المتوقعة أزمة ديون خليجية شاملة قد تتفجر خلال الأعوام 2025-2027، خاصة مع استمرار انخفاض أسعار النفط، وتصاعد أسعار الفائدة العالمية، وتراجع الثقة في السندات الخليجية