
كتبت: بسنت عماد
لم تكن ثورة 30 يونيو مجرد احتجاج عابر أو غضب جماهيري من سوء إدارة البلاد، بل كانت لحظة وعي وطني فارقة، أعادت تصحيح المسار، وأنقذت الدولة المصرية من السقوط في قبضة مشروع استبدادي باسم الدين، تقوده جماعة الإخوان المسلمين.
في ذلك اليوم، خرج ملايين المصريين ليعلنوا رفضهم لحكم الجماعة، مؤكدين أن مصر لا تُختطف، ولا تُدار من خلف الستار، وأن الدولة فوق التنظيم، والوطن فوق أي ولاء.

الشرارة الأولى.. مذبحة رفح
في مساء 5 أغسطس 2012، اهتز الضمير المصري على وقع مذبحة بشعة استهدفت كمينًا للجيش المصري قرب معبر كرم أبو سالم، أسفرت عن استشهاد 16 ضابطًا وجنديًا أثناء إفطارهم في رمضان.
لكن الصدمة الأكبر كانت في رد الفعل الرئاسي الباهت، الذي أثار تساؤلات حول من يحكم مصر فعلًا، ودفع كثيرين إلى الشعور بالخطر الحقيقي الذي يهدد كيان الدولة المصرية.

من يحكم مصر؟
قبل حوالي ثلاثة أشهر من هذا الحادث الإرهابي، تولى محمد مرسي رئاسة الجمهورية، في 30 يونيو 2012.
لكن سرعان ما اكتشف المصريون أن الحكم الفعلي لم يكن في قصر الاتحادية، بل في مكتب الإرشاد.

كان مرسي مجرد واجهة لقرارات تُصدر من خلف الكواليس، وأداة في يد تنظيم الإخوان المسلمين. لم يمتلك شخصية القائد، ولا القدرة على إدارة دولة بحجم مصر.
فبدت مؤسسات الدولة مشلولة، وتضاءل دور الرئيس أمام شخصية المرشد ونائبه المهندس خيرت الشاطر، “صاحب النفوذ الحقيقي داخل جماعة الإخوان المسلمين”.

مشروع النهضة.. وعود بلا مضمون
روّجت جماعة الإخوان المسلمين لمشروع – اكتُشف لاحقًا أنه وهمي- أُطلق عليه اسم “النهضة”.
تعهد رئيس الدولة وقتها بحلول لأزمات المرور، والخبز، والوقود، والكهرباء، وغيرها، خلال أول 100 يوم، لكن الواقع جاء صادمًا للشارع المصري، وعكس كل توقعات أنصاره.

انقطعت الكهرباء، اختفى البنزين، وأصبح الحصول على رغيف الخبز المدعوم معركة يومية للأسرة المصرية، اشتعلت الأسعار، وتساءل الجميع: هل كان هناك مشروع نهضة حقيقي؟ أم أنها مجرد وعود جوفاء بلا دراسة أو خطط؟ وكانت النتيجة مزيدًا من احتقان الشارع المصري.
إدارة مرتبكة تهدد الأمن القومي
في مشهد أثار مزيجًا من السخرية والغضب، دعا الرئيس لاجتماع “سري” مع عدد من الشخصيات العامة والسياسيين لمناقشة أزمة سد النهضة، ليتفاجأ الجميع ببث الاجتماع مباشرة على شاشات التلفزيون!

كانت أفكار المشاركين تتراوح بين مقترحات بضرب السد وإرسال جواسيس، وغيرها.. والأغرب كانت الابتسامة اللامبالية على وجه الرئيس، الذي بدا غير مدرك لحساسية الموقف، ولا لتأثيره على صورة مصر الإقليمية.
كان هذا دليلًا واضحًا على الإدارة العشوائية لأخطر ملف في تاريخ الأمن القومي المصري.

التمكين
أصبح هدف جماعة الإخوان المسلمين، مع مرور الوقت، واضحًا في محاولات السيطرة الكاملة على مؤسسات الدولة دون وضع خطط علمية لإصلاحها.
فعلى سبيل المثال، تمكنوا من تعيين القيادي الإخواني صلاح عبد المقصود وزيرًا للإعلام للسيطرة على مفاصل المنظومة الإعلامية، كما تولى الإخواني أسامة ياسين وزارة الشباب والرياضة بهدف استقطاب المزيد من الشباب لدعم التنظيم، إلى جانب شخصيات أخرى شغلت مناصب حساسة داخل الدولة.

أصدر مرسي إعلانًا دستوريًا، في نوفمبر 2012، منحه صلاحيات مطلقة، وحصّن قراراته من أي طعن قضائي، فأثار ذلك عاصفة من الغضب والاحتجاج في الشارع المصري.
تمت صياغة دستور بمنهج إقصائي، قوبل بعاصفة من الانسحابات من القوى المدنية من لجنة إعداده، ورفض شعبي واسع، كانت الديمقراطية مجرد وسيلة لتمكين الجماعة من حكم البلاد.

العفو عن الإرهابيين.. قتلة السادات في مقاعد الشرف
من أخطر قرارات مرسي، الإفراج عن مدانين في قضايا إرهاب، ينتمون لتنظيمات متطرفة، وفي مقدمتهم عبود الزمر، أحد المتورطين في اغتيال الرئيس الشهيد أنور السادات.
لم يكتف النظام بإخراجهم من السجون، بل منحهم مساحة للظهور في المشهد العام، وسمح لهم بالجلوس في الصفوف الأمامية خلال احتفالات نصر أكتوبر .

كان المشهد صادمًا للشعب المصري، مشهد يُجسد العبث بثوابت الدولة، وتكريم من تلطخت أيديهم بدماء زعيمها.
لم تكن مجرد زلة، بل تأكيدًا على نهج التمكين، حتى لو كان الثمن هو تمجيد قتلة، ما داموا منتمين للتنظيم.
لكن الأخطر كان ما تلا ذلك.. فقد ساهم الإفراج عن هذه العناصر في إعادة تنشيط البؤر الإرهابية، خاصة في سيناء، التي تحولت إلى مرتع للعنف والتكفير.

الاتحادية.. الدم أمام القصر
احتشد الآلاف من المتظاهرين، في ديسمبر 2012، أمام قصر الاتحادية لإعلان رفضهم الشعبي لإعلان مرسي الدستوري والدستور الجديد.
قابل أنصار الجماعة هذا الرفض بالعنف، والاعتداء على المعارضين بالعصي والسكاكين والمولوتوف وأسلحة الخرطوش.
أدى ذلك إلى سقوط المزيد من الشهداء والمصابين، وكانت تلك الليلة نقطة فاصلة كشفت الوجه الحقيقي للتنظيم الإرهابي.

بيع قناة السويس
نظراً لعدم وجود حلول اقتصادية لانتشال الدولة المصرية من كبوتها المالية، وعدم قدرة الحكومة على توفير العملة الصعبة، جاء تفكير التنظيم لتأجير قناة السويس لدولة عربية مقابل مبالغ مالية لحل الأزمة.
حاول مرسي تنفيذ تعليمات التنظيم الدولي، مما أثار مزيدًا من الاحتجاجات والرفض والغضب من جميع فئات الشعب.

اتهامات بالخيانة
فوجئ المصريون بتسريبات عن تورط محمد مرسي في التخابر مع جهات أجنبية، مثل تركيا وقطر وحركة حماس والتنظيم الدولي للإخوان، أكدت التحقيقات الرسمية لاحقًا هذه التسريبات.
كان للطعن في ولاء رئيس الجمهورية لوطنه وقع صادم على الجميع، لما يشكله من خطر مباشر على الأمن القومي المصري.

دولة تُدار من خارج حدودها، تُصنع قراراتها السيادية والوطنية من خلال مكتب إرشاد التنظيم دون الرجوع إلى مؤسساتها المختصة.
أثار ذلك مزيدًا من الاحتقان والرفض الشعبي لخيانة وطن بحجم مصر.

الإعلام تحت الحصار
أرادت الجماعة احتكار الكلمة وإسكات كل صوت معارض لفرض الأمر الواقع.
في مارس 2013، أعطت الضوء الأخضر لأنصار حازم صلاح أبو إسماعيل لاقتحام مدينة الإنتاج الإعلامي، ومنع دخول الإعلاميين والمعارضين في مشهد عبثي لترويع حرية الإعلام ومنعه من نقل الحقيقة.

“تمرد” بداية الثورة
وسط هذا الغليان، نظم بعض المعارضين والسياسيين، فعاليات شعبية رافضة لـ”حكم المرشد”، مما أجج الرفض الشعبي للمشروع الإخواني، وساهم في زيادة الوعي بالهوية التي كانت الدولة مهددة بالتردي فيها.
بقيادة شباب غاضبين، انطلقت حملة “تمرد” في 2013، لتجمع ما يزيد عن 22 مليون توقيع لسحب الثقة من رئيس متهم بالخيانة، وإجراء انتخابات رئاسية جديدة، كانت تلك الحملة نقطة التحول الحاسمة لولادة الثورة.

الشعب يسترد الدولة
خرج ملايين المصريين، في 30 يونيو 2013، في مشهد سيظل التاريخ يتأمله طويلًا، ملأوا الميادين من التحرير إلى الاتحادية، ومن الإسكندرية إلى أسوان، بشعار واحد: “ارحل”. لتسقط شرعية جماعة إرهابية خائنة حاولت خطف مصر.

3 يوليو.. البحث عن بطل
واضعًا رقبته تحت السكين، أعلن الفريق أول عبد الفتاح السيسي، وزير الدفاع، في الثالث من يوليو 2013، خارطة طريق مستجيبًا لصراخ ملايين المصريين الذين خرجوا مطالبين بإنقاذ مصر من حكم جماعة الإخوان الإرهابية.

بقرار حاسم وجماعي من قيادات الجيش المصري، والمجتمع المدني والسياسي، والقيادات الدينية، تم إيقاف العمل بالدستور المشبوه، وعُزل رئيس الجمهورية المتهم بالخيانة، وكُلف رئيس المحكمة الدستورية العليا بتولي إدارة المرحلة الانتقالية، تمهيدًا لإجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية شاملة، مع ضمانات لتمثيل جميع أطياف الشعب المصري.
كان ذلك اليوم لحظة إنقاذ حقيقية، أعادت فيها الدولة هيبتها، واستعاد فيها الشعب وطنه من قبضة مجموعة من الخونة حاولوا اختطافه.

سجّل عبد الفتاح السيسي موقفًا وطنيًا بطوليًا، اختار فيه الانحياز للشعب، ليبدأ مسارًا جديدًا نحو استقرار الدولة، والحفاظ على هويتها ومؤسساتها من الإنهيار.
تخلى عن منصبه كوزير للدفاع، بناءً على رغبة ملايين المصريين، التي تكررت مرارًا، ليتولى منصب الرئاسة، ليصبح فيما بعد رئيسًا للدولة.

الإرهاب يطل برأسه
لجأت أذناب الجماعة الإرهابية إلى الاعتصامات المسلحة في ميداني رابعة والنهضة بالقاهرة، مع موجات من العنف والعمليات الإرهابية التي اجتاحت البلاد، دون تفرقة بين المدنيين والعسكريين والسياسيين والقضاة والمسلمين والمسيحيين.

صورة لمواطن مصري في احتفالات أمم إفريقيا ـ مصر ـ 2019
خاضت القوات المسلحة والشرطة حروبًا شرسة ضد الإرهاب، في كل ربوع مصر من سيناء وحتى درنة، ومن الإسكندرية وحتى أقصى نقطة في جنوب مصر.
سقط خلالها الآلاف من الشهداء ليظلوا رمزًا للفداء والتضحية والوطنية في قلوب ملايين المصريين.

لماذا انتفض المصريون؟
كادت أن تُمحى هوية شعب انتفض لإنقاذ وطن كان يُختطف أمام عينيه، ومؤسسات ومفاصل دولة يتم تفريغها من مضمونها، وحاكم لا يملك قراره.
انتفضوا دفاعًا عن كرامة كادت أن تُهان، وأرض كادت أن تُباع.

ثورة شعب لا تُنسى
في اللحظة الأخيرة، أنقذت مصر نفسها، فبدأت طريقًا صعبًا مليئًا بالعقبات، في بناء دولة لشعب لا يعرف إلا أن يحيا شامخًا، ولا يرضى إلا بالانتصار في معارك البناء والسلاح.