fbpx
معرفة

مع ” الجمهورية الثانية “.. إلى أين تمضي علاقات القاهرة مع الدولة العبرية ؟ 

بقلم : عبد المجيد إبراهيم

 

تشير مراجعة التاريخ السياسي الحديث لأوروبا إلى أن إعلان الجمهوريات المتعاقبة في الكثير من دولها – و منها فرنسا و إيطاليا و بولندا – أحدث تحولات جذرية في النظام الاجتماعي و السياسي و الاقتصادي فيها؛

طال – في بعض الأحيان – المقومات الأساسية لها، و انطوى – في الغالب – على تغييرات فارقة في علاقة الدولة بمحيطها الإقليمي و جوارها الحدودي،

لكنه عكس دائما محاولات – لم تكن المؤسسة العسكرية بعيدة عنها في جميع الحالات – لإعادة بناء دولة ذات فاعلية منجزة تؤسس إدارة حديثة .

هذه الحقيقة التاريخية تشرعِن للسؤال التالي:

إلى أي مدى كانت الجمهورية الأولى في مصر امتدادا للحقبة الملكية فكريا و هيكليا ؟

و بتعبير آخر، هل مثّل إعلان الجمهورية في مصر في يونيو 1953 قطيعة كاملة أو شبه كاملة مع الحقبة المشار إليها ؟!

و بالقياس نفسه يمكننا طرح السؤال الأكثر أهمية للمستقبل: هل تمثل الجمهورية الثانية في مصر امتدادا للجمهورية الأولى التي سقطت في يناير 2011 ؟

و ما هو نصيبها المتوقع من التحولات و التغييرات المشار إليها في السابق ؟

المشتغلون بالسياسة يدركون بالطبع أن الأسئلة المطروحة هي أسئلة ضخمة و شديدة التعقيد لا يجيب عنها مقال تحليلي.

لهذا، جرى تصميم هذا المقال لمحاولة استشراف طبيعة العلاقة بين القاهرة و تل أبيب في ظل الجمهورية الثانية و كفى؛

باعتبارها مكونا جوهريا في علاقة الدولة المصرية بمحيطها و جوارها، و متغيرا أساسيا في تقدير مكانتها و نفوذها الإقليمي، و هذه المحاولة تقتضي أن نقرّ ابتداء بأن تعاقب الجمهوريات هو عمليةٌ / سيرورة process تصب في النهاية في واقع دستوري أو تشريعي مختلف، و رؤى معدَّلة للتعامل مع مصادر التهديد بالمفهوم الاستراتيجي.

إن ما يلفت النظر في الموعد الذي تحدد للإطلاق الرسمي لهذه البوابة الإخبارية

التي تحمل اسم ” الجمهورية الثانية “ موافقته يوم السادس من أكتوبر الذي أكدت فيه العسكرية المصرية قبل ما يقرب من خمسة عقود جدارتها في القيام بمهامها الدستورية، و تحديدا في مواجهة الدولة العبرية التي تمثل واحدا من مصادر التهديد الرئيسية للدولة المصرية، في التقدير الاستراتيجي الصرف.

و هذا توصيف يذكرنا – على سبيل المثال – بإعلان الجمهورية الفرنسية الرابعة في 1946 التي قادت فرنسا إلى الدخول في حلف عسكري ضم في عضويته لاحقا عدوّها التاريخي ( ألمانيا الاتحادية ) و إن كان لا يلمح من طرف خفي إلى تطابق المآلات؛

و من هنا تتحدد الزاوية الصحيحة لرؤية العلاقة التي نحاول استشراف طبيعتها في السنوات المقبلة.

لا ينتبه الكثيرون – و هذا أمر غريب – إلى أن الجمهورية الأولى في مصر لم تكن هي صاحبة قرار المواجهة العسكرية الأول مع الدولة العبرية التي أعلنت في مايو 1948 ، و إلى أنها لم تكن أيضا البادئة في مسلسل التفاوض مع هذه الدولة.

إن الحروب و المفاوضات التي خاضتها الجمهورية الأولى في مصر مع تل أبيب لم تكن إلا قطعا متصاعدا في المنحنى الذي أخذ يرتسم مع نشوب حرب فلسطين، و توقيع اتفاقات رودس للهدنة التي أعقبتها، و المفاوضات التي باشرتها الخارجية المصرية لاحقا مع هذه الدولة، تحت إدارة وزير الخارجية الوفدي محمد صلاح الدين.

و من الموثق أن الجمهورية الأولى في مصر كانت قريبة في مناسبة واحدة – على الأقل – من الوصول إلى تسوية سياسية للنزاع مع الدولة العبرية قبل حرب أكتوبر، و توقيع اتفاقيتين لفض الاشتباك العسكري بعدها، وصولا إلى اتفاقيتي كامب ديفيد في 1978 .

و المؤكد أن العقود الثلاثة الأخيرة في حياة الجمهورية الأولى كانت اختبارا طويل الأمد لقدرة العلاقات بين القاهرة و تل أبيب على التطور، و الانتقال إلى الحالة التي صاغتها مواد معاهدة السلام المبرمة بين الطرفين في 1979 .

واقعيا، لم يحدث هذا مطلقا، و ما حدث أن جوانب عملياتية محددة لمنع الحرب، و الفصل الحاسم بين القوات، و تمديد فض الاشتباك إلى أمد غير محدد، و خفض مستوى التهديد المتبادل، و توازن النفوذ، و كبح جماح السلوكيات العدائية، جرى إرساؤها، و تعمقت أحيانا، و بيّنت جدواها في الإبقاء على وضعية ليست بالخبيثة من الاستقرار و الهدوء النسبي على المستوى الإقليمي و عبر الحدود،

مع وجود استثناءات  تعود – في مجملها – إلى طبيعة النظام العسكري/ السياسي للدولة العبرية، و إلى أيدلوجيته الكامنة فيه، و المسيطرة على مؤسساته.

و على جانب آخر لم يرَ واضعو الدساتير المصرية أية ضرورة – في أي وقت من الأوقات – لوصف قواعد ثابتة ملزمة للسياسة الخارجية للدولة تجاه الدولة العبرية أو غيرها، فكان يتم الاكتفاء دائما بإثبات المسلمات و الآليات الأساسية التي تنطلق منها و تتنفذ بواسطتها تلك السياسة. و طوال الوقت لم تكن الدولة بحاجة إلى تأكيد التزامها المدوّن دستوريا بالمعاهدات و المواثيق التي هي طرف فيها؛

باستثناء الفترة التي أدارت فيها المؤسسة العسكرية شؤون البلاد ، و عبر إعلان دستوري مؤقت، صدر في فبراير 2011 .

و من دون الخوض في تشريحات تحليلية مرهقة، يمكن القول – بناء على ما تقدم – إن فكرة ديمومة الصراع و الاشتباك المحتمل مع الطرف الآخر، و التهديد الدائم الذي يمثله كل طرف للآخر، هي فكرةٌ راسخة في العقيدة العسكرية للدولتين المصرية و العبرية، و إنها تعبر عن نفسها بصورة مضمرة في الدساتير المصرية، و بصورة سافرة في برامج الأحزاب اليهودية في الدولة العبرية، و في القوانين و اللوائح التي تحكم تنظيم جيشها و عقيدته الاستراتيجية.

و هكذا نستطيع أن نفهم في هذا السياق تحديدا حيثيات التفاعلات الحادثة في مجريات العلاقات بين الطرفين، و ما يحيط بها بين وقت و آخر من ملابسات خارقة؛

من مثل الادعاء بتسهيل رئيس الوزراء السابق بنيامين نيتانياهو مشتروات سلاح للقوات البحرية المصرية؛ استنادا إلى دوافع استراتيجية!

لم تتغير الرؤية الاستراتيجية المصرية للدولة العبرية منذ لحظة ميلادها، و ليس هناك ما يدعو أو يوجب أو يبرر الحاجة إلى تغيير كهذا مع ” الجمهورية الثانية “.

و في المقابل، يتزايد مع التحولات الهائلة و التغييرات الصادمة في المشهدين الدولي و الإقليمي؛ الطابع العدواني التوسعي للدولة العبرية، و تقترب هذه الدولة حثيثا – قانونيا و مؤسسيا – من التوحد الكامل مع العقيدة الرؤيوية التي نشأت عليها، و هنا يبرز كمثال دالٍ قانون ” يهودية الدولة “، و تبوّء زعيم حزب يمينا (إلى اليمين ) نفتالي بينيت رئاسة الحكومة هناك.

و يقودنا هذا الاستنتاج الذي يمكن تفصيله في مناسبة أخرى إلى نتيجة حاسمة بل حاكمة تخص مسار العلاقة بين الطرفين، مؤداها أن جوهر الصراع الذي يتراوح بين أوضاع كثيرة كالكُمون و السفور و الهبوط و التصاعد و غيرها، هو الفكرة التي يحملها كل منهما عن نفسه، و طبيعة الدور الذي يحدده لنفسه بناء عليها، و مقادير المكانة التي يتمتع بها جراء قيامه بهذا الدور.

إن تأمل هذه النتيجة يمكّن من تعيين ما أسميناه بالجوانب العملياتية الجوهرية ” الملموسة ” للعلاقات بين القاهرة و تل أبيب بوضوح؛

بما يسمح بفهم التفاعلات الحادثة في مجرياتها منذ سقوط الجمهورية الأولى في مصر، و في المستقبل القريب.

في المقام الأول ؛

يجب أن يكون مفهوما أن القرارات المتعلقة بالعلاقات مع تل أبيب – حتى في ظل واقع افتراضي يكتمل فيه بناء الركائز المنطقية للجمهورية الثانية في مصر، و نعني بذلك نظاما سياسيا ديمقراطيا يرسخ مبدأ سيادة القانون موضوعيا و يصون حقوق الإنسان عمليا – تبقى اختصاصا حصريا للمؤسسة العسكرية، و الأجهزة المعلوماتية المعاونة لها، مع أو بدون انتماء رئيس السلطة التنفيذية إليها، و هذا جانب له أهمية مطلقة و تأثير قاطع في السياق.

ثانيا ؛

و في موازاة ما تقدم، يستمر الرأي العام في مصر الذي يمنح المؤسسة العسكرية ثقته المطلقة كحامية لتراب الوطن و مصالحه في مواجهة التهديدات، و يقبل على مضض بعلاقات رسمية مع الدولة العبرية يستمر على هذا الموقف الممانع الذي لا يخفي معارضته لتطوير أو تطبيع هذه العلاقات ؛ بدون إنهاء الاحتلال المتطاول للأراضي الفلسطينية، و سيطرة الدولة العبرية المطلقة على مدينة القدس.

ثالثا ؛

يرتبط ارتباطا وثيقا بما سلف التواجدُ المصري المباشر أو غير المباشر في قطاع من الأراضي الفلسطينية المحتلة على طول الساحل؛ قريبا من بلدة المَجْدَل وصولا إلى الحدود المصرية، و هو تواجد له أصول تاريخية عتيدة، و يبقى عملياتيا على تماسّ مع قضاء الخليل جنوب الضفة الغربية، و يسهم بشكل حاسم في إدارة هذه العلاقات.

و نعني بذلك ما عرف بعد حرب فلسطين بقطاع غزة الذي يمثل في مواجهة الاحتلال – في الوقت الحاضر –  قوة مقاتلة مسلحة ضاربة معرّضة لأدنى قدر من الضغوط الإقليمية و الدولية .

رابعا ؛

يفيد سيناريو الصراع الذي تجسد إلى الآن بين الطرفين ؛ بأن ردود الأفعال المصرية على الممارسات العدائية الفجّة للدولة العبرية بحق سورية و لبنان، هي ردود حاضرة أيّا كان وضع الصراع، و يصعب القفز عليها، أو تجاوز تبعاتها، أو التعامي عنها من جانب تل أبيب، و هو أمر لم يتغير منذ لحظة انطلاق الصراع، و تؤكد حقيقة ثباته الكثير من التفاعلات القريبة و البعيدة في سياق العلاقات بين الطرفين، و من ذلك التهديد الذي طال سورية في 1967 ليتطور سريعا إلى حرب واسعة كانت مصر طرفا رئيسيا فيها، و سحب السفير المصري في تل أبيب و تجميد العلاقات التي كانت بدأت للتوّ معها، نتيجة لحرب لبنان 1982.

خامسا ؛

توجد إمكانية دائمة للإبقاء على حالة الهدوء بين الطرفين بعديد الوسائل، و في مقدمتها الضامن الموثوق من قبل الطرفين، و نزع السلاح الموضعي، و الاستعانة بالمراقبين، انتهاء بإجراء تعديلات على الاتفاقات المبرمة، و كلها وسائل استخدمت منذ بدء الصراع، و المثال الأحدث عليها هو إعادة النظر في ترتيبات القوات المصرية في المناطق المحددة في بروتوكول الانسحاب الملحق بمعاهدة السلام ؛

حتى تتمكن القوات المسلحة و قوات العمليات الخاصة الشرطية من مواجهة المجموعات غير النظامية الإرهابية المسلحة في شمال سيناء .

سادسا ؛

فتحت التفاعلات المتراكمة في مجريات العلاقات بين الطرفين نطاقا مؤثرا للمعنيين من الجانب المصري للتحرك على مسرح السياسة و في ميدان الأعمال في الدولة العبرية، ما أوجد ظاهرة جديدة تنمو باضطراد في هذه الدولة يمكن تسميتها بالتنافس على مصر ، و هي ظاهرة تشبه – إلى حد بعيد – سلوك الساسة و العسكريين و رجال الأعمال و الباحثين و غيرهم في الدولة العبرية حيال الزعماء و القادة و مؤسسات الحكم في واشنطن.

سابعا ؛

تظل سياسة الدولة العبرية في إدارة العلاقات مع مصر – باعتبارها آلية رسمية و مقننة لكسب الصراع على المدى الطويل – على حالها، و هي تقوم على أسس ثابتة من أهمها:

السعي إلى الحضور / السيطرة على نقاط  المرور و الوثوب الجيواستراتيجية في الإقليم، و الاستمرار في العمل طبقا لاستراتيجية شدّ الأطراف الإقليمية من القوميات غير العربية؛ إضافة إلى محاولة النيل من قدرة القاهرة على ضبط إيقاع العلاقات العربية مع تل أبيب، و تنويع و تشديد حدة العمل السرّي الذي يستهدف الدولة المصرية على جميع المحاور .

إن للصراع نظريته، و الدول و الأفراد و المصالح يتقاتلون عادة في منتهى الودّ و التعاون ! 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى