كيف تحولت النقاشات إلى معركة صوتية؟

إعداد: رحمه حمدى
لم يعد المرء يحتاج إلى التفتيش طويلًا ليلاحظ الظاهرة التي طفت على سطح التفاعل الاجتماعي. في المقاهي، في وسائل النقل العام، على شاشات التلفاز، وحتى في حوارات الأصدقاء والعائلة، ارتفع منسوب الصوت بشكل لافت. لم تعد المحادثات تدار همسًا أو حديثًا معتدل النبرة، بل تحولت في كثير من الأحيان إلى ما يشبه المبارزات الصوتية حيث يصرخ كل طرف ليسمع صوته. هذا التحول من التخاطب إلى الصياح يستدعي التساؤل عن جذوره وأسبابه في عصر يفترض أنه أصبح أكثر اتصالًا وانفتاحًا.
أسباب نفسية واجتماعية:
ترتبط هذه الظاهرة بجذور نفسية واجتماعية عميقة. على المستوى الفردي، ينبع الصياح من شعور الإنسان بالتهديد والتهميش، فيلجأ إليه كآلية دفاعية لتعويض افتقاده للأمان النفسي أو لإثبات وجوده عندما يعتقد أن صوته لا يُسمع. يضاف إلى ذلك نقص المهارات العاطفية التي تمكنه من إدارة غضبه وإحباطه بشكل سليم، فينفجر لفظيًا كبديل عن الحوار الهادئ.
اجتماعيًا، يأتي هذا السلوك نتيجة لتفكك آليات الحوار التقليدية وانتشار ثقافة الاستقطاب الحاد التي تحول الخلاف إلى معركة وجودية. في ظل أزمة الثقة في المؤسسات والسلطات، يشعر الأفراد أن عليهم مقاضاة قضاياهم بأنفسهم وبأعلى صوت ممكن. كما تسهم الضغوط الاقتصادية والفردانية المفرطة في تغذية حالة الغضب المكبوت والتركيز على الذات، مما يجعل رفع الصوت يبدو وكأنه الوسيلة الوحيدة للتعبير والتأكيد على الذات في فضاء اجتماعي صاخب ومتشظ.
تأثير التكنولوجيا والعالم الافتراضي:
لا يمكن فصل هذه الظاهرة عن سياقها التكنولوجي. فالعالم الافتراضي، بكل منافذه من منصات تواصل اجتماعي وتطبيقات رسائلية، أشاع ثقافة التعبير الفوري والانفعالي. لقد اعتاد المستخدم على تفجير غضبه أو رأيه في منشور أو تعليق حاد، دون أن تتاح له فرصة التروي أو رؤية رد فعل الطرف الآخر الحقيقي. هذه العادة الافتراضية في التخاطب بحدية وصراخ كتابي انتقلت إلى العالم الواقعي، فأصبح الصوت المرتفع هو النسخة المادية للكتابة بحروف كبيرة.
فقدان فن الحوار:
يبرز هنا عامل بالغ الأهمية، وهو تراجع ثقافة الحوار الهادئ والمنطقي. لقد أضحت القدرة على الاستماع بمثابة فضيلة منقرضة. يسارع الكثيرون إلى مقاطعة محدثهم، لا ليناقشوا فكرته، بل ليفرضوا فكرتهم هم بصوت أعلى. غاب منطق الحجة وطغت قوة الصوت، وكأن volume الصوت قد حل محل volume الحجة وقوة المنطق. النقاش لم يعد بحثًا عن الحقيقة أو محاولة للتفاهم، بل تحول إلى مسابقة لكسب النقاط وإسكات الخصم.
تأثير الإعلام والنماذج المقدمة:
كما ساهم الإعلام، ببرامجه الحوارية ومسلسلاته، في تطبيع هذه الصورة. فالحوارات التلفزيونية كثيرًا ما تتحول إلى مشاجرات علنية، حيث يتداخل صوت المتحدثين ويعلو بعضهم على بعض في مشهد أشبه بحلبة مصارعة. المشاهد، خاصة صغار السن، يتلقون هذه النماذج على أنها الطريقة الطبيعية والمقبولة لإدارة النقاش، فيقلدونها في حياتهم اليومية.
الخطر الأكبر في استمرار هذه الظاهرة ليس مجرد الإزعاج السمعي، بل هو تآكل نسيج التواصل الإنساني الأساسي. عندما يتحول الصراخ إلى لغة، يفقد الكلام قيمته ومعناه، وتغيب nuances المشاعر والدقة في التعبير. إن مواجهة هذا التحول تتطلب وعيًا جماعيًا بأهمية إعادة اكتشاف هدوء الكلمة وقوة الاستماع، وأن يكون الصوت معبرًا عن قناعة داخلية وليس مجرد رد فعل انفعالي.