
بعد اندلاع الحرب في السودان عام 2023، انحدرت البلاد إلى دوامة من العنف المنفلت، امتدت من العاصمة الخرطوم لتبتلع المدن والقرى في مسار دموي. وفقاً للبيانات الأممية، تجاوز عدد القتلى أربعين ألف شخص، فيما نزح أكثر من أحد عشر مليوناً داخل البلاد، وفرّ أربعة ملايين آخرين إلى الدول المجاورة، مع الإشارة إلى أن الأرقام الفعلية قد تكون أعلى بكثير.
في خضم هذا الانهيار، شرعت قوات الدعم السريع في إعادة رسم خريطة السيطرة، متجهة غرباً نحو دارفور بعد أشهر من المعارك في الخرطوم. وأصبحت مدينة الفاشر، المعقل الأخير للجيش في الإقليم، هدفاً رئيسياً ورمزاً للمواجهة الحاسمة.
أحكمت تلك القوات قبضتها على الفاشر تدريجياً، حيث أقامت أسواراً ترابية حول السكان المتبقين الذين يقدر عددهم بمائتين وستين ألف نسمة، ومنعت دخول الغذاء والمساعدات. ثم أمطرت القذائف الأسواق والمستشفيات ومخيمات النازحين، لتصبح المدينة سجناً جماعياً محاصراً بالجوع والخوف والموت.
كشف تقرير صادر عن مختبر الأبحاث الإنسانية في جامعة ييل الأمريكية عن صور أقمار اصطناعية تظهر أكواماً من الجثث تم إعدامها جماعياً، ومناطق تُرك فيها المدنيون يموتون قرب المستشفيات أو على أطراف الأسوار. وأكد التقرير أن الفاشر تشهد واحدة من أوسع عمليات القتل الجماعي الموثقة منذ بدء الحرب.

خلال الأسبوع الأخير من الحصار، أكدت مساعدة الأمين العام للأمم المتحدة لشؤون أفريقيا أن المدينة تواجه إبادة بطيئة في ظل انعدام الممرات الآمنة للمدنيين. وتحدثت تقارير أممية عن عمليات قتل جماعي، وإعدامات ميدانية من منزل إلى منزل، وعنف جنسي ممنهج. وفي شهادة صادمة، أفاد متحدث باسم منظمة الصحة العالمية بأن مسلحين اقتحموا المستشفى السعودي وقتلوا أكثر من 460 شخصاً بين مرضى وأطباء.
لم يعد الصراع يدور حول السيطرة العسكرية فقط، بل تحول إلى محو المدن وتفريغها من سكانها، مما جعل الفاشر مرآة دامية لواقع السودان المنكسر.
أظهر تقرير ييل وجود 31 موقعاً مشتبهاً لوجود جثث، موزعة بين أحياء سكنية ومبان عامة. وكشفت الصور عن تغيرات حرارية واحتراقات متعمدة، تشير إلى عمليات إعدام ميداني وحرق للجثث في محاولة لإخفاء الأدلة. وقدر الباحثون أن المدينة التي كانت تضم قرابة 250 ألف نسمة قبل الاجتياح، أصبحت شبه خالية من الحياة، حيث قُتل الآلاف وفرّ ستة وثلاثون ألف شخص فقط إلى مناطق أكثر أماناً.
وثقت بيانات الأقمار الاصطناعية أنماطاً متكررة لحرائق موضعية حول المقابر والمباني العامة، متزامنة مع شهادات ناجين تحدثوا عن إطلاق نار على الأطفال أمام ذويهم، وعمليات نهب وإعدام عشوائي. وأشار التقرير إلى اختفاء منهجي للرجال والفتيان، وعنف جنسي ممنهج ضد النساء، وإجبار النازحين على التبرع بالدم قسراً.
أكد المختبر أن صور الأقمار الاصطناعية المأخوذة في أواخر أكتوبر كشفت عن موقعين لعمليات قتل جماعي حول المستشفى السعودي ومركز احتجاز شرق المدينة، مع مؤشرات واضحة على استمرار هذه الممارسات.
يخلص التقرير إلى أن ما يجري في الفاشر يشكل تطهيراً جماعياً ممنهجاً يهدف إلى محو المدينة من الوجود، وأن الأدلة الرقمية والبصرية أصبحت شاهداً صامتاً على جريمة تحتاج إلى محكمة وضمير دولي مستيقظ.
من الناحية المنهجية، يبنى التقرير على معطيات علمية متدرجة، يجمع بين صور الأقمار الاصطناعية عالية الدقة ومؤشرات الحرارة وأنماط الاحتراق، مع مقارنتها زمنياً بروايات الناجين والمصادر الطبية المحلية. هذا التكامل بين الأدلة الرقمية والشهادات الميدانية يرفع من مصداقيته ويجعله أداة تحقق مزدوجة تعيد بناء تسلسل الأحداث.
يشكل التقرير تحولاً نوعياً في أدوات التوثيق الإنساني، حيث ينتقل من حدود الرواية إلى فضاء التحليل العلمي القابل للتحقق، مما يمنح المجتمع الدولي أرضية متينة لفتح تحقيقات قضائية ومساءلة الأطراف المتورطة في جرائم الحرب.
أشار التقرير إلى أن قوات الدعم السريع تنتهج رواية مضللة تزعم أن بعض المدنيين مقاتلون، لتبرير عمليات الإعدام الجماعي، مؤكداً أن ذلك لا يغير من صفتهم المدنية ولا يسقط الحماية القانونية عنهم.
في ضوء هذه التطورات، لم تعد الأرقام الأممية مجرد بيانات، بل أصبحت شهادات قانونية ضمنية على انتهاكات قد ترقى إلى جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وفق القانون الدولي الإنساني.
يحذر التقرير من أن السودان يقف على حافة كارثة إنسانية كبرى، مع تآكل مقومات الحياة الأساسية في دارفور وكردفان والخرطوم، وتصاعد مؤشرات المجاعة وتدهور النظام الصحي.
من منظور قانوني، يبقى الأمل في تحقيق العدالة ممكناً متى ما تحركت الإرادة السياسية جنباً إلى جنب مع إرادة العدالة. فوقف الحرب لا يقتصر على إسكات البنادق، بل يتطلب إعادة بناء منظومة المساءلة وضمان عدم الإفلات من العقاب.
تمتد مسؤولية المجتمع الدولي، وفق ميثاق الأمم المتحدة واتفاقيات جنيف، إلى حماية المدنيين ومنع تكرار الانتهاكات الممنهجة. وقد تشكل الفظائع الموثقة أرضية قانونية وأخلاقية للتحرك العاجل.
تبقى المحكمة الجنائية الدولية، رغم بطء إجراءاتها، أداة رمزية ومحورية في معركة الضحايا ضد النسيان. كما يمكن لمجلس حقوق الإنسان والآليات الأممية الخاصة أن يشكلوا جسوراً لتعزيز العدالة الانتقالية داخل السودان.
رغم أن التقرير وحده لا يكفي لإدانة المتورطين، إلا أنه يضع لبنة أولى في سجل العدالة المستقبلية، التي تتأسس على التوثيق وتستمد قوتها من الإصرار على الأمل في وجه الانهيار.
يواجه المشهد السوداني اختباراً أخلاقياً وسياسياً حاسماً، حيث تظهر تقارير مجلس الأمن والكونغرس الأمريكي والحكومة البريطانية واقعاً دموياً على الأرض. بيان مجلس الأمن بشأن سيطرة قوات الدعم السريع على الفاشر، رغم لهجته الحازمة، ظل محكوماً بحدود الإدانة الرمزية من دون آليات تنفيذية تتناسب مع حجم الكارثة.
أما الاتهامات الأمريكية التي وصفت الأحداث بأنها إبادة جماعية، فتصطدم بغياب الإرادة التنفيذية وتردد الإدارة الأمريكية في تحويل الخطاب إلى سياسة عقابية شاملة.
في المقابل، قدمت بريطانيا تقارير موثقة إلى بعثاتها وشركائها الدوليين، مستندة إلى شهادات ميدانية وصور أقمار اصطناعية تتطابق مع ما ورد في تقرير جامعة ييل. هذا التلاقي بين الدليل العلمي والتقارير الدبلوماسية يمنح الصورة الكلية مصداقية عالية، ويشكل قاعدة بيانات يمكن أن تكون أساساً لتحقيقات جنائية مستقلة.
يبقى السؤال الجوهري حول إمكانية تحول هذا التراكم في الأدلة والإدانات إلى تحول حقيقي في ميزان العدالة. واقعياً، لا تزال أدوات الضغط محدودة، والنظام الدولي يعاني شللاً هيكلياً يمنع تحريك آلية عقابية فاعلة دون توافق واسع بين القوى الكبرى.
مع ذلك، تكمن القيمة الفعلية لهذه التقارير في توثيقها الدقيق الذي يحول الجريمة إلى سجل لا يمكن محوه، ويشكل نواة محتملة لأي محكمة دولية مستقبلية أو آلية مساءلة مشتركة.
بين الرمزية الأممية والاتهامات الأمريكية والتوثيق البريطاني والأكاديمي، يتشكل مشهد مزدوج يجمع بين واقع دموي على الأرض وإدراك دولي متنام بعظم الجريمة. يبقى الأمل قائماً، وإن كان هشاً، في أن يتحول هذا الإدراك إلى إرادة سياسية صلبة تفرض عقوبات وتطلق مساراً قضائياً يليق بحجم المأساة. فمن بين ركام الحرب وخرائط الأقمار الاصطناعية، قد تنبعث أولى ملامح العدالة المؤجلة.



