وفاء النيل

إعداد: رحمه حمدى
في المعتقدات المصرية القديمة، لم يكن نهر النيل مجرد نهرٍ عادي، بل كان قوة إلهية ومصدرًا للحياة نفسها. ارتبطت نشأته بالأساطير الفرعونية التي صورت النيل كجزء من الخلق الكوني، وهدية من الآلهة لشعب مصر.
أسطورة الخلق والنيل
اعتقد المصريون أن العالم بدأ من مياه أولية تسمى “نون”، وهي محيط من الفوضى يحيط بالكون. من هذه المياه الخالدة، ظهرت التلة الأولى، ومنها خرج الإله أتوم (أو رع في بعض الروايات)، ليبدأ عملية الخلق. ارتبط النيل بهذه الأسطورة، حيث رأى الفراعنة أن فيضانه السنوي هو استمرار لفيضان نون، يجدد الحياة كل عام.
النيل وإلهه حابي
كان حابي هو الإله الذي يمثل النيل في المعتقد المصري القديم. صوروه كرجل ممتلئ الجسم، يرمز إلى الخصوبة والوفرة، يحمل القرابين من النباتات والطعام. كان المصريون يعتقدون أن حابي يسكن في كهف أسفل الشلالات الجنوبية، ومن هناك يتحكم في مياه النيل، ويقرر مقدار الفيضان كل عام.
النيل والطقوس الدينية
لضمان استمرار فيضان النيل، كانت تقام الطقوس والصلوات للإله حابي ولآلهة أخرى مثل أوزوريس، الذي ارتبط موته وقيامته بدورة الفيضان. في عيد “وفاء النيل”، كان الفراعنة يلقون القرابين في المياه، بما في ذلك التماثيل الذهبية والورود، كتعبير عن الشكر والتوسل للآلهة كي تمنحهم فيضانًا مثاليًا.
ذكر النيل في نصوص الأهرام ونصوص التوابيت كـ “النهر العظيم الذي يخرج من الجنة”. وصفه الكتبة الفراعنة بأنه “شرايين مصر”، واعتبروا أن جفافه يعني نهاية العالم. حتى أن بعض النصوص نسبت له صفة الخلود، مثل الإله نفسه.
حقيقة أم أسطورة: هل كان الفراعنة يرمون البنات في النيل؟
انتشرت شائعة تاريخية مفادها أن المصريين القدماء كانوا يقدمون أضاحي بشرية، خاصة من الفتيات، كقرابين للنيل لضمان فيضانه. لكن الحفائر والأبحاث الأثرية لم تؤكد هذه المزاعم. في الواقع، لم يعثر العلماء على أي دليل مادي أو نقوش فرعونية تثبت ممارسة كهذه.
المصريين القدماء، رغم تقديسهم للنيل، كانوا يعتمدون على الطقوس الرمزية مثل إلقاء تماثيل صغيرة أو قرابين نباتية في الماء، كما ذكر في نصوص مثل “نصوص الأهرام”. بعض المؤرخين يعتقدون أن هذه الشائعة ربما نشأت من سوء تفسير لأسطورة “عروس النيل” في العصور اللاحقة، أو من قصص ملفقة استخدمها الغزاة لوصم الحضارة المصرية بالهمجية.
الأكيد أن المصريين القدماء قدسوا الحياة البشرية، واعتبروا النيل مصدرًا لها، لا مكانًا للدمار. حتى أسطورة أوزوريس التي تتحدث عن القتل والبعث ربطت النيل بالخصوبة والتجديد، وليس بالموت العبثي.
رغم مرور آلاف السنين، لا يزال النيل يحمل نفس القدسية التي منحه إياها الفراعنة. أساطيرهم تعكس فهمًا عميقًا لأهميته، وكأنهم أدركوا منذ البداية أن النيل ليس مجرد ماء، بل هو سر البقاء. اليوم، يمكننا أن نرى في فيضانه السنوي صدى لتلك المعتقدات القديمة، حين كان المصريون يرون في كل موسم فيضان معجزة إلهية تتكرر.