أحمد صبري شلبي يكتب: المتحف المصري الكبير.. وعاء الحضارة وحصن الهوية المصرية

فَخْرٌ وَاعْتِزَازٌ لَا يُوصَفَانِ كَوْنِي مِصْرِيًّا، فَخْرٌ وَاعْتِزَازٌ يَتَرَسَّخَانِ كُلَّ يَوْمٍ، وَمَعَ كُلِّ حَدَثٍ وَكُلِّ خُطْوَةٍ تَخْطُوهَا مِصْرُ بِثِقَةٍ وَثَبَاتٍ نَحْوَ الْمُسْتَقْبَلِ. فَالرِّهَانُ عَلَى الِاعْتِزَازِ بِالْهُوِيَّةِ الْمِصْرِيَّةِ رِهَانٌ رابح دَائِمًا؛ لِأَنَّهَا هُوِيَّةٌ ضَارِبَةٌ فِي عُمْقِ التَّارِيخِ، مُتَجَدِّدَةٌ فِي رُوحِ الْحَاضِرِ، لَا تَعْرِفُ الِانْكِسَارَ وَلَا تَعْرِفُ الْفَنَاءَ.
وَعَلَى أَرْضِ الْجِيزَةِ، الشَّاهِدَةِ عَلَى أَعْرَقِ الْحَضَارَاتِ الْإِنْسَانِيَّةِ، وَعِنْدَ سَفْحِ الْأَهْرَامَاتِ الشَّامِخَةِ، يَقِفُ «الْمُتْحَفُ الْمِصْرِيُّ الْكَبِيرُ» كَصَرْحٍ جَدِيدٍ يَرْوِي حِكَايَةَ أُمَّةٍ لَا تَزَالُ تُبْهِرُ الْعَالَمَ بِقِدَمِهَا وَعُمْقِهَا. إِنَّ افْتِتَاحَ هَذَا الْمُتْحَفِ لَيْسَ مُجَرَّدَ مُنَاسَبَةٍ ثَقَافِيَّةٍ أَوْ مِعْمَارِيَّةٍ، بَلْ إِعْلَانٌ مَدَوٍّ عَنْ اسْتِرْدَادِ مِصْرَ لِوَهَجِهَا الْحَضَارِيِّ، وَتَأْكِيدٌ أَنَّ الْحَضَارَةَ الْمِصْرِيَّةَ كَانَتْ وَمَا زَالَتْ صِمَامَ أَمَانِهَا الْأَوَّلَ، وَسَنَدَهَا الْمَنِيعَ فِي وَجْهِ الزَّمَنِ وَتَقَلُّبَاتِهِ.
المتحف المصري الكبير ليس مجرد مبنى فخم، بل وعاء حضارة وحصن هوية، ومعبد للذاكرة الوطنية الخالدة. إنه الجسر الذي يربط الماضي بالحاضر، ويصوغ صورة مصر أمام العالم كما هي في حقيقتها: بلدٌ صنع التاريخ، واحتضن الإنسانية، وحافظ على جوهرها.
إن حضارة مصر القديمة استمرت، لأنها قبل أن تكون حضارة بناء جدران، كانت حضارة بناء أخلاق ووعي؛ فما أقامه المصري القديم من صروح كالأهرامات والمعابد، لم يكن إلا انعكاسًا لما بناه في داخله من قيم ومبادئ، جعلت حضارته خالدة لا تبلى، ورسالتها تتجاوز الزمان والمكان.
يُعد المتحف المصري الكبير أكبر متحف في العالم مخصص لحضارة واحدة، وهو ليس مستودعًا للآثار بقدر ما هو رحلة بصرية وروحية عبر آلاف السنين منذ فجر التاريخ. يحتوي بين جدرانه على أعظم كنوز الإنسانية، وعلى رأسها المجموعة الكاملة للملك الذهبي “توت عنخ آمون”، التي تُعرض للمرة الأولى كاملة منذ اكتشافها عام 1922.
الحضارة.. السند والمدافع الأول عن الهوية المصرية
عبر آلاف السنين، واجهت مصر أزمات وتحديات جسيمة، لكنها ظلت واقفة بشموخ، لأنها تمتلك ما لا تملكه الأمم الأخرى: حضارة تُحصّنها وهوية تُنقذها.
ففي كل منعطف تاريخي، كانت الهوية المصرية — بميراثها الحضاري والديني والثقافي — هي الحصن والسند، وهي البوصلة التي أعادت للأمة توازنها وألهمت أبناءها.
واليوم، يأتي المتحف المصري الكبير ليُجسد هذا المعنى في أبهى صوره، كدليل على أن الحضارة ليست مجرد ماضٍ يُروى، بل قوة حية تصنع الحاضر وتبني المستقبل.
العالم يشهد.. ومصر تثبت قدرتها
المشهد العالمي في افتتاح المتحف المصري الكبير مهيبًا بحق. عشرات الوفود الرسمية، من رؤساء دول ووزراء ثقافة وسفراء ومنظمات دولية، تتوافد إلى القاهرة لتشهد ميلاد هذا الصرح.
وهو مشهد لا يمكن لأي مصري أن يراه دون أن يتذكر كيف كانت البلاد منذ سنوات قليلة فقط، في زمن الانفلات الأمني والتحديات الصعبة. من كان يصدق وقتها أن مصر ستعود لتستقبل العالم كله بهذه الصورة المشرّفة؟
لكن بتوفيق الله، ثم بفضل تضحيات شهداء مصر الأبرار، وبقيادة واعية آمنت بأن الأمن شرط الحضارة، عادت مصر لتثبت أنها بلد الأمن والأمان، وأنها قادرة على تنظيم الأحداث الكبرى كما كانت دائمًا — بعظمة، وثقة، وقدرة على الإبهار.
فحقا وصدقا “مصر عادت شمسك الذهبي”
انتخاب خالد العناني لليونسكو.. تأكيد دولي للدور المصري
وهنا يجدر بنا أن نسلط الضوء على حدث بالغ الأهمية، فلم يتوقف الحضور المصري عند حدود المتحف، بل امتد ليشمل الساحة الدولية. فانتخاب الدكتور خالد العناني، وزير السياحة والآثار السابق، مديرًا عامًا لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) بأغلبية ساحقة، يُعد شهادة عالمية على أن مصر ما زالت قادرة على قيادة الفكر الإنساني والحوار الحضاري.
إن هذا الاختيار لم يكن تكريمًا لشخص، بل اعترافًا بدور مصر كحاملة لرسالة الثقافة والتراث الإنساني. فقد أثبتت للعالم أن من يحفظ تراثه يستطيع أن يحفظ تراث الإنسانية جمعاء، وأن الحضارة المصرية لا تزال منارة تُضيء دروب الأمم.
جيل جديد.. وانتماء لا يتزعزع
ومن هنا، تبرز ضرورة أن يدرك الجيل الجديد قيمة هذا الوطن العظيم. صحيح أن هذا الجيل عاصر فترات صعبة وواجه تحديات قاسية، لكن ذلك لا يبرر ضعف الانتماء أو التراجع في الارتباط بالوطن.
بل إن كل ما مرّت به مصر يجب أن يكون دافعًا لتجديد العهد مع الهوية المصرية، والوعي بأننا امتداد لسلسلة لا تنكسر، تمتد من بناة الأهرام إلى مهندسي المتحف الكبير.
فالوطنية ليست شعارات، بل وعي بالذات، وإيمان بأن مصر — بتاريخها، وثقافتها، وحضارتها — هي الأم التي لا تُضاهى، والهوية التي لا تموت.
في الختام.. افتتاح المتحف المصري الكبير يتجاوز كونه حدثًا ثقافيًا أو معماريًا إلى كونه إعلانًا وطنيًا عن خلود الهوية المصرية.
فهذا الصرح العظيم ليس مجرد مبنى يحتضن آثارًا، بل هو مرآة لهوية أمةٍ وذاكرة حضارتها، ورسالة للعالم بأن مصر لا تزال تكتب فصولها الخالدة في كتاب الإنسانية.
فكما حفظت آثارها عبر الزمان، ستحفظ هويتها عبر الأجيال.
الحضارة لا تموت.. ومصر لا تُهزم
فتحيا مصر.. وتحيا حضارتها الخالدة



