Jannah Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.
الأخبارمقالات

أحمد صبري شلبي يكتب: الحج محاكاة ليوم القيامة

مع حلول أيام ذي الحجة المباركة، وكلما تأملت مشاهد الحجيج وهم يؤدون تلك الفريضة العظيمة، أجد نفسي أبحث عن الرسائل الربانية العميقة الكامنة في هذه الشعيرة. إنها ليست مجرد عبادة تُؤدى، بل تجربة وجودية حقيقية تعيد ترتيب القلب والعقل معًا.
لعل أقرب رسالة — من وجهة نظري الشخصية — هي أن الحج بمثابة محاكاة رمزية، أو “بروفة روحية” ليوم القيامة. إنه يتجاوز مجرد أداء المناسك، ليصبح رحلة تهزّ القلب، وتوقظ الروح، وتعيد الإنسان إلى أصل وجوده، وتُذكّره بيوم الرحيل والبعث واللقاء مع الله.
هيا بنا نستعرض تلك المشاهد الخالدة في فريضة الحج، التي تربط قلوبنا بيوم القيامة وتُذكرنا به.

الإحرام: تجرد من الدنيا واستعداد للرحيل
لحظة ارتداء لباس الإحرام الأبيض البسيط هي نقطة البداية. في هذه اللحظة، يتجرد الانسان من كل مظاهر الدنيا: لا تمايز بين غني وفقير، لا ألقاب، ولا تفاخر بالجاه والمنصب. الجميع سواسية أمام الله، في مشهد يماثل لحظة الخروج من الدنيا، حيث يتساوى البشر جميعًا.

الوقوف بعرفة: لحظة الحشر الصامتة
يوم عرفة هو قلب الحج وذروته. في هذا اليوم المهيب، يجتمع ملايين البشر على صعيد واحد، يدعون ويبكون ويتضرعون إلى الله في مشهد يذكرنا بأرض المحشر يوم القيامة. الكل يرجو رحمة الله ومغفرته. إنها لحظة تطهر روحي عميق، تتجلى فيها معاني التسليم والصدق مع الخالق.

الطواف والسعي: دورة الحياة ومعاني السعي
الطواف حول الكعبة المشرفة يعيد ترتيب مركز الإنسان الداخلي، ليصبح الله هو المحور والوجهة في كل أمور حياته. أما السعي بين الصفا والمروة، فهو تذكير بقصة السيدة هاجر وسعيها المتواصل بحثًا عن الماء لرضيعها إسماعيل عليه السلام. إنه درس بليغ يؤكد أن الإيمان ليس مجرد شعور، بل هو سعي دائم وعمل مستمر، وأن الثقة بالله لا تعني الجمود، بل تتطلب البذل والجهد والتوكل عليه.

رمي الجمرات: ثورة على الشيطان والهوى
يُعد رمي الجمرات رمزًا لمواجهة كل ما يُبعد الإنسان عن الله من وساوس شيطانية، ومعاصٍ، وشهوات نفسية. إنها إعلان صريح للتحرر من عبودية النفس الأمّارة بالسوء، والغرور، والتعلق الزائف بزخارف الدنيا. الحاج يرمي الجمرات، وكأنه يرمي معها كل القيود التي تكبّل روحه وتمنعه من الارتقاء.

لماذا الحج ركن رغم كونه لمرة واحدة؟
قد يتساءل البعض عن مكانة الحج كركن أساسي من أركان الإسلام، على الرغم من أنه لا يُفرض إلا مرة واحدة في العمر ولمن استطاع.
الإجابة تكمن في دوره العميق في إحياء الإيمان وتجديده، وتذكير الأمة كلها بالآخرة. مناسك الحج كلها تحاكي مشاهد يوم القيامة، فتوقظ القلوب الغافلة، وتعيد ترتيب الأولويات، وتربط العبد بربه في لحظات من الصفاء والصدق المطلق. الأثر العميق للحج لا يقتصر على الحاج وحده، بل يمتد ليشمل مجتمعه بأسره، من خلال ما يحمله الحاج من إشراق إيماني وتجديد روحي يُلقي بظلاله على من حوله.

سورة الحج: ربط المعنى بالوحي والسياق الرباني للرسالة الكبرى
من اللافت أن سورة الحج هي السورة التي جمعت بين أركان الإيمان، مشاهد الحج، ومشاهد البعث والقيامة في تناغم بديع، بدأت السورة بمشهد يوم القيامة بقول الله تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ﴾ (الحج: 1-2)

ثم تتوالى الآيات التي تحمل نفس الرسالة، التذكير بالبعث والحساب:
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ﴾ (إلى آخر الآية 5)
﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَّا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُورِ﴾ (الحج: 6-7)
﴿إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ (الحج: 17)
﴿اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ (الحج: 69)

الحج: بداية لا نهاية
في الختام، يجب أن ندرك أن الحج لا ينتهي بطواف الوداع. بل هو بداية لمشوار جديد في حياة الإنسان. يعود الحاج بقلب نقي، وروح مطمئنة، وصفحة بيضاء، لا ليعود كما كان قبل هذه الرحلة المباركة، بل ليبدأ من جديد… بوجهة خالصة إلى الله.
ومن لم يحج بعد، فليبدأ بسفر القلب، وليرى في الحج دعوة للاستعداد الحقيقي للقاء الله، حيث يكون الفوز الأعظم لا فيما نملك من حطام الدنيا، بل في النجاة الأبدية يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى