الأخبارتقارير

شحاتة زكريا يكتب: حين يتحدث الصمت المصري.. ماذا تفعل القاهرة بينما الجميع يصرخ؟

في إقليم يُشبه قدر ضغط يغلي على نار السياسة والدم يعلو الصراخ من كل صوب ، وتتهاوى العواصم إما في فوضى الحروب أو في صخب الصفقات. لكن وسط هذا الضجيج تظل القاهرة تمارس استثنائيتها الصامتة. لا تلوّح بالتهديد ولا تتبارى في إطلاق البيانات ولا تركب موجة الشعارات؛ بل تقف كالجبل، تراقب، تتحرّك في صمت، وتدير توازناتها بأدوات لا تطرق الطبول.

ليس الصمت ضعفا كما يظنه المتعجلون ، بل هو فن نادر في زمن الصراخ. فبينما تنشغل عواصم كثيرة بإحراق أوراقها أو استعراض عضلاتها، تُفضّل مصر أن تلعب دورًا آخر: أن تظل قادرة على التأثير من خارج دائرة النيران ، أن تحفظ لنفسها الحق في الحركة حين يضيق هامش المناورة ، وأن تبني مصداقيتها ليس على الانفعال ، بل على الفعل الهادئ الطويل النفس.

فماذا تفعل القاهرة إذن؟ ولماذا لا تصرخ مثل الآخرين؟ ببساطة لأنها تدرك أن الإقليم يقف فوق حافة الهاوية ، وأن كلمة غير محسوبة أو موقف متسرع قد يجرّ المنطقة كلها إلى دوامة لا خروج منها. تدرك مصر أن جزءا من قوتها يكمن في أنها لا تستنزف نفسها في معارك الصوت العالي بل تختار معاركها بعناية ، وتخوضها حين تكون شروط النصر ناضجة.

في ليبيا حافظت القاهرة على خطوطها الحمراء دون أن تطلق رصاصة. وفي السودان اختارت ألا تتورط في لعبة المحاور ، بل مارست سياسة الصبر العميق مدركة أن النسيج السوداني هشّ وأن النار هناك لا تحتاج لمن يصب عليها زيتا. في غزة لم تسعَ مصر إلى بطولة مصطنعة بل إلى دور أصيل يبدأ من حماية الإنسان لا المتاجرة بقضيته. وفي علاقاتها مع القوى الكبرى ، تمسّكت القاهرة بميزانها التاريخي فلا ذابت في الشرق ولا رهنت نفسها للغرب بل صنعت لنفسها مقاما وسطا يُحترم من الجميع حتى وإن أزعج البعض.

هذه السياسة التي قد تبدو للبعض “هادئة أكثر من اللازم”، ليست وليدة اللحظة بل هي امتداد لعقل الدولة المصرية الذي يدرك أن الفوضى حين تندلع لا تستأذن ، وأن الثمن لا يدفعه من أطلق الشرارة فقط بل من جاوره ورافقه وتواطأ معه بالصمت أو الانحياز.

من يقرأ الجغرافيا جيدا يعرف أن مصر لا يمكنها أن تلعب مثل البقية. فدول كثيرة في المنطقة تملك رفاهية المغامرة لأنها بلا عمق بشري أو ثقل تاريخي. أما مصر فهي التي إن اهتزت ارتجّ الإقليم. ولهذا فإن حسابات الدولة المصرية لا تُبنى على العناوين المثيرة بل على الهندسة المعقدة للمصالح والتوازنات. هذه الدولة تعرف جيدا متى تتكلم ومتى تلوذ بالصمت ومتى تترك الآخرين يستهلكون أصواتهم في الهواء بينما هي تُنجز على الأرض.

صمت القاهرة ليس حيادا بل هو شكل متقدم من أشكال الفعل السياسي. فحين تلتزم الصمت فهي تقول الكثير لمن يفهم. تقول إنها تراقب وتحتفظ لنفسها بحق التدخل في الوقت المناسب. تقول إن استقرارها لا يُشترى في الأسواق، ولا يُفرّط فيه تحت ضغط العواطف أو التهديدات. وتقول –قبل كل شيء– إن مصر لا تركب موجات الآخرين بل تصنع موجتها الخاصة بطريقتها الخاصة في توقيتها الخاص.

وما بين كل موجة إقليمية هائجة تخرج مصر من كل اختبار أكثر تماسكا. لا تسقط في فخ الاندفاع ولا تجرّها العواطف إلى مستنقعات الصراع الصفري. إنها ببساطة تمارس ما يمكن تسميته “فن الدولة الكبرى”، تلك التي تعرف حجمها الحقيقي ولا تحتاج إلى تضخيم صوتها لتثبت وجودها.

في زمن الصراخ يصبح للصمت قيمة استثنائية. والصمت المصري –رغم ما يظنه البعض– ليس فراغا بل هو امتلاء بالتقدير والحساب والنية والخطة. وهو ما يجعل القاهرة حاضرة دائما حتى وإن لم تكن أول من يتحدث.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى