
تشكيل الوعي الجمعي في زمن الحرب
لم تتناول الدراما الإسرائيلية الصراع العربي الإسرائيلي بشكل مباشر، واعتاد القائمون عليها على وضعه في إطار اجتماعي يُبرز دعوى الحق الديني التاريخي اليهودي في فلسطين ويُركز على الرغبة الإسرائيلية في التعايش السلمي إقليميًا وداخليًا مع الأقلية الفلسطينية، وأدت الأعمال الدرامية الإسرائيلية التي تناولت حرب يونيو 1967م (حرب الأيام الستة) وحرب أكتوبر 1973م(حرب يوم الغفران) إلى ترسيخ أهمية الحرب في الوعي الجمعي الإسرائيلي، باعتبارها من أهم عناصر وحدة وتضامن المجتمع الإسرائيلي وبث روح الثقة الطلقة في قيادته العسكرية والحكومية.
ويُمكن لمتابع للإنتاج الدرامي الإسرائيلي الذي تناول حرب “طوفان الأقصى” أن يدرك بسهولة أن ثمة تغير قد حل على وجه هذه الثقافة التي أشرنا إليها؛ وتناولت بعض الأفلام مقارنة الوضع السياسي في إسرائيل قبل وبعد الحرب، حيث تم تصوير بعض منها قبل 7 أكتوبر2023م، ثم أُعيدت كتابته لتطرأ أحداث “طوفان الأقصى” وتحتل مكانة محورية في الأحداث مثل فيلم “أكسجين” “חמצן”، للمخرجة “نتالي براون” تدور أحداثه حول الحرب بين إسرائيل وحزب الله أو ما يُعرف بنموذج لبننة الحرب، والتي تختلف (ظاهريًا) عن حروب إسرائيل على قطاع غزة ومن بينها طوفان الأقصى(السيوف الحديدية)، ولكنه لا يدور بشكل مباشر حول الحرب في حد ذاتها، ولكنه يدور حول الحياة في بلد تتكرر فيه الحروب والحملات العسكرية؛ ويظهر ذلك في افتتاحية الفيلم وهي بروفة لاحتفال يوم القدس في مدرسة ابتدائية في بلدة “نهاريا”، ويلعب الطلاب دور جنود شاركوا في معركة القدس عام ١٩٦٧م، ويفتتح”يعقوب” الحفل، وهو جندي شارك في هذه المعركة وهو والد المُعلمة “عنات”، والدة “إيدو” وهو على وشك الانتهاء من الخدمة العسكرية الإلزامية، وقد خططا سويًا لحياته بعد الجيش، ولكن تأجل كل ذلك باندلاع الحرب، وتحاول عنات بشتى الطرق منعه من مواصلة المشاركة في القتال، لاقتناعها أن الحياة التي تتمنى لابنها تبدو مستحيلةً في إسرائيل، مع خطر القصف المستمر، وما أكد موقفها- أعراض صدمة والدها القتالية الحادة التي تطارده بقسوة ومنعته من العمل.
وتُعد الطبيعة العنيفة للمجتمع الإسرائيلي موضوعًا متكررًا في أفلام المخرج “نداف لابيد”، كما يحتل الصراع العربي الإسرائيلي مكانة مركزية أكبر فيها وهو ما نراه في فيلم “نعم” “כן”، الذي كُتب أيضًا قبل أحداث السابع من أكتوبر وأُعيدت كتابته في أعقاب الحرب، وهو يُشير بشكل مباشر إلى الواقع المضطرب واختلاف طبيعة المجتمع الإسرائيلي كنتيجة مباشرة لاختلاف هذه الحرب عن سابقاتها؛ حيث ظهر الانحلال الأخلاقي الناجم عن العنف التزايد والألم والفقد، وينتقد أثرياء إسرائيل والجيش وتبريراتهم للعنف من الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني، والاعتراف بأن لكل طرف دوافعه الخاصة وصدماته الخاصة، كما يتناول مسألة الهجرة من إسرائيل وصورة المستقبل دون هوية إسرائيلية، ويتساءل هل هذا ممكن من منظور أخلاقي!

وهناك بعض الروايات التي تم الإعلان عن إعدادها لتُقدم دارميًا ولم تُعرض بعدُ مثل: “صرخات قبل الصمت” الذي أنتجه الهستدروت الصهيوني العالمي، “ضابطة الإصابات- لواء جولاني קצינת נפגעים- גולני”، “مشروع آفي نيشر פרויקט של אבי נשר”، “كيف حالنا؟ מה שלומנו” ، “مشهد من ارتفاع ١٠٠٠ متر מבט 1,000 מטר”، “بطولة قائدات الدبابات في 7 أكتوبر גבורת הטנקיסטיות ב-7 באוקטובר”، “شورا שׁוּרָה” ، “تسجيلات نجمة داوود الحمراء المباشرة من المنطقة الجنوبية הקלטות מד”א בזמן אמת מאזור הדרום”، “بروفة مفتوحة (على حافة الخوف) חזרה פתוחה (עד קצות הפחד)”، “مشروع المراقبين פרויקט התצפיתניות”، “قصة شفيل סיפורו של שביל”، “قصة راحيل إدري من أوفاكيم סיפורה של רחל אדרי מאופקים”.
وكانت مشاهدتي للمسلسل الإسرائيلي القصير” الضوء الأول/ البداية” الدافع الرئيس لكتابة هذا المقال؛ فهو مستوحى من أحداث يوم السابع من أكتوبر 2023م، وقدمته القناة الـ12 الإسرائيلية في 4 حلقات طويلة، وهو من تأليف وإخراج “ليور حيفتس”، وإنتاج شركتي “جرين برودكشنز وبيندر براون برودكشنز”، بالتعاون مع القناة ومؤسسة “IEF للمحتوى الدرامي”، و”الصندوق القومي اليهودي” في الولايات المتحدة الأمريكية، ومؤسسة “شوسترمان إسرائيل”، ومؤسسة “آفي حاي”، ومؤسسة “موسى بن ميمون”، ومؤسسة “جيشر”.
لقد تضافرت كل هذه الطاقات الإنتاجية لتصوير ما حدث فجر السبت ٧ أكتوبر ٢٠٢٣م، وقدمت شخصيات مستوحاة من أشخاص حقيقيين بأسمائهم الحقيقية وأخرى خيالية. وعرضت تفصيلًا كيف تسلل حوالي ٦٠٠٠ عنصر جهادي من قطاع غزة إلى عشرات القرى الإسرائيلية وغابة باري والمنشآت العسكرية في محيط قطاع غزة، من خلال ١١٩ ثغرة مختلفة، جوًا وبحرًا، وشنوا معارك بالأسلحة النارية ضد عدد قليل من قوات الأمن العام والكثير من الإسرائيليين. وأظهرت كيف تأخرت فرق الاحتياط وضباط شرطة إسرائيل الكبار ومقاتلو مشاة البحرية وجنود الجيش الإسرائيلي وكيف كانت جميعها- أقل عددًا. كما يُقدم اتهامًا ضمنيًا إلى نجمة داود وقوات الإنقاذ السريع، التي فشلت في أداء مهمتها على أكمل وجه في ذلك اليوم المروع بالنسبة للإسرائيليين.
واعتمد المسلسل على مواد صُوّرت وسُجّلت مباشرةً من كاميرات مراقبة الحفل الذي كان قرب كيبوتس ريعيم، ووصفه بعض النُقاد الإسرائيليون بأنه استباحة للحزن وشرعنته؛ لأنه يحُث الإسرائيليين على البقاء في منازلهم لمشاهدة تمثيلًا مُختلقًا يُبرز القصور الشديد في الحكومة والجيش وكل الهيئات الإسرائيلية، بدلًا من الخروج عليه والاحتجاج على الواقع الذى أدى لهذه الأحداث، في غياب ذلك النوع من الخوف المقدس الذي يجمع ولا يُفرق؛ فلم يُقدم الرهائن في الأنفاق ومعاناةً عائلاتهم والعائلات الثكلى، ولم يتناول المجتمعاتٌ المُهجّرة بأكملها، وفي عالمٍ موازٍ ينتجون مسلسلًا يُدير ظهره للمعاناة، بدلًا من مدّ يد العون بالعلاج المناسب للمجتمع المأزوم .
وختامًا؛ لم تُوثّق أحداث الهولوكوست النازي كما وُثقت أحداث 7 أكتوبر 2023م إسرائيليًا، ولكنها استُخدمت كعنصر أساس في الرواية الإسرائيلية لابتزاز العالم ماديًا وعاطفيًا، وعلى غرار ذلك حاول القائمون على مسلسل “الضوء الأول” استدرار عاطفة المشاهد الإسرائيلي الذي فقد الثقة في جيشه وقيادته الحكومية والعسكرية؛ بإلصاق البطولة والأمل في غد أفضل بوصول الجيش الإسرائيلي لرفع هذه المعاناة عن الجميع وبينهم الفلسطيني الذي يحمل الهوية الإسرائيلية الذي أغرقه طوفان الأقصى مع من أغرق من اليهود الإسرائيليين. لكنها النفس البشرية التي لا تزال بحاجة إلى استيعاب أن مسلسلًا بحجم “الضوء الأول” الإنتاجي قد يؤدي إلى أضرارٍ كارثية في مجتمع ليس لديه وقتٌ للحزن، ويرى مواطنوه أن أفراده جميعًا معرضون لخطر التشرد والقتل باستمرار منذ وطأت أقدامهم أرض فلسطين.
رغم الادعاء بأن هذا النوع من الدراما هي الطريقة المُثلى التي تُحفظ بها هذه الكارثة في الوعي الجمعي الإسرائيلي، وتتفوق على المحتوى الوثائقي الذي دأبت القناة 11 الإسرائيلية على إنتاجه وتقديمه من حيث نسب المشاهدة؛ إلا أن تداعيات أحداث 7 أكتوبر 2023م ستشهد تغييرًا جذريًا في الواقع الإسرائيلي على المدى المتوسط، وستتتغير نظرة المجتمع لما تقدمه السينما التي تتناول هذا الواقع باعتبارها مخالفة تمامًا لصورته الحقيقة وسيُشكل هذا تحديًا أمام صنّاع الدارما – أهم أدوات إسرائيل في توجيه الوعي الجماهيري لما تقتضيه المصالح الإسرائيلية.



