مقالات

محمد فؤاد البري يكتب: معيار ثراء الدول

دائما يثار السؤال الأزلي والذي لا يتفق على إجابته أحد: مصر دولة غنية أم فقيرة؟
وهناك مدرستين في هذا الصدد، مدرسة ترى أن مصر دولة غنية في مواردها فقيرة في ادارتها لتلك الموارد، ومدرسة أخرى تري أن مصر دولة شحيحة الموارد والإدارة تتعامل مع المتاح.
والحقيقة هو سؤال واسع بلا حدود، والإجابة عليه تتطلب فهم كثيرا من الأمور للوصول إلى حكم عادل ومنصف، فلا يمكن حسم تلك القضية بكلمة واحدة.
لأنك تحكم على مصر متصلة وليست منفصلة، متصلة بتاريخها الطويل وبغيرها من الدول.
كما أنك قبل الإجابة على هذا السؤال الصعب يجب أن تعرف ما معيار ثراء الدول وعلى أي أساس نحكم على دولة بأنها فقيرة وأخرى غنية؟
وتحدد بدقة ماذا تقصد بالثراء؟ وماذا تقصد بالفقر؟ فالثراء أشكال وألوان وكذلك للفقر عدة أوجه، فهناك فقر مادي، فقر فكري، فقر مائي، فقر حضاري، فقر غذائي، فقر أمني، فقر غذائي، فقر تقني ومعرفي الخ.

والحقيقة أن فقر الدول وغناها أمر نسبي وليس ملازم الدول طيلة تاريخها مثلها مثل الأشخاص، فما من قرية يحصرها العارف بتاريخها الا وجد فيها أغنياء كان آباؤهم إلى زمن قريب من الفقراء، ووجد فيها فقراء كان آباؤهم إلى زمن قريب من الأغنياء، وتلك الأيام نداولها بين الناس كذلك تصدق المقولة بين الأمم.. عندما تتقلب الظروف وتتغير الأحوال:
كانت مصر صومعة الغلال للإمبراطورية الرومانية، والآن أصبحت مصر من أكبر الدول المستوردة للقمح في العالم!
وكانت أمريكا مجرد مستعمرة انجليزية على هامش الأطلنطي لا شأن لها بعد ذلك أصبحت قوة عالمية جبارة،
الصومال مثلا تلك الدولة الفقيرة في الوقت الحالي كانت من أغنى دول أفريقيا في الماضي، كما كانت دول الخليج فقيرة قبل ثورة النفط وأصبحت ثرية مادياً بعد اكتشاف البترول، كذلك قارة أوربا والتي تعبر عن تلك الشعوب المتقدمة في أذهاننا كانت تعاني في العصور الوسطي من الفقر والمجاعات.
ومن الأمثلة الصادقة علي أن الدول ليست ثابتة في درجة الثراء المادي مقارنة أحوال مصر قبل اكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح وبعد اكتشافه علي سبيل المثال كانت مصر دولة غنية في العصر المملوكي بفضل انتعاش الحركة التجارية، حتى ظهر طريق رأس الرجاء الصالح سنة 1488 م وانكمشت مصر لتصبح فقيرة جدا لتدخل في سبات لمدة ثلاثة قرون كأهل الكهف حتى تقلص عدد سكان مصر عند دخول الحملة الفرنسية سنة 1798 إلى 2,5 مليون نسمة فقط كانت حصيلة دولة عمرها أكثر من ستة الاف سنة رقم هزيل جدا يعبر عن حجم المعاناة والمجاعات التي مرت بمصر نتيجة لإهمال الأتراك حتى جاء القدر بحملة من الغرب لتكشف لنا واقع جديد نبدأ من خلاله وجندي ألباني ينتقل بمصر من ظلمات العصور الوسطى إلي مشارف العصر الحديث.

ومن المعايير التي يستعين بها البعض لتحديد الفوارق المادية بين الدول هي قيمة العملة للتشكيك في قدرات مصر الحالية والتضخيم في قوتها الماضية! وانتشرت تلك المقارنات والتي نالت قبول عدد كبير من رواد السوشيال ميديا بلا تحليل ونقد كاف ض العبث عقد مقارنة بين قيمة الجنيه المصري في العهد الملكي وقيمته الحالية ، متجاهلين قيمة الانسان المصري لأن الحكومة الملكية لن تنفق علي المصريين إلا الفتات فكان هناك فائض كبير في الموارد في مجتمع النصف بالمائة ، فمصر كانت مجرد مزرعة كبيرة للإقطاعيين في وقت كانت أوروبا تعاني من ويلات الحروب العالمية التي دمرت اقتصادها ومدنهم لسنوات، مما جعل هناك قيمة ذهبية للجنيه المصري بالمقارنة بالعملات العالمية الأخرى ولكن في المقابل كانت هناك قيمة صفرية للمواطن المصري ، ففي سنة 1947 بلغت نسبة الأميين حوالي 78% من جملة السكان ، أيام الحرب العالمية الثانية كان يقل أجر العامل الزراعي عن أجر ماشية الحقل فقد بلغ قرشين او ثلاثة قروش في حين كان تكاليف البغل 12 قرشا والجاموسة 22 قرش ! فالمغالاة في تمجيد الملكية ظلم في حق الجمهورية.. فلا يمكن فصل ثراء الدولة عن ثراء شعبها مهما وصلت قيمة العملة.

وان كان التاريخ يخاطب الماضي ويقر بتأرجح الدول بين الثراء والفقر فالجغرافيا تخاطب الحاضر، وحاضر مصر وبحكم دراستي للجغرافيا ودراسة موارد معظم دول العالم أقول حتى لا نظلم الحكام أن مصر دولة شحيحة في مواردها الطبيعية بالمقارنة بدول أخري ، فالنهر مائيا أصبح لا يكفي احتياجات المصريين ومصر تعاني بالفعل من فقر مائي منذ عقود ، والبحر الأحمر بلا بترول يذكر مقارنة بالخليج العربي ، والغاز الطبيعي في المياه الإقليمية للبحر المتوسط لا يقارن بدول مجاوره مثل ليبيا والجزائر أو دول قزمية مثل قطر ..ودخل القناة في سنة بالكاد دخل بئر بترول واحد من آبار الخليج في أسبوع ، كما أن الطبيعة والمناخ حددا لمصر مساحة ضئيلة جدا للحياة 6% فقط قابلة للسكن وباقي الدولة فراغ صحراوي يتطلب أموال طائلة لتعميره ، كما أن مصر هذا البلد الزراعي العريق كانت تمتلك 5 مليون فدان منذ عهد الخديوي إسماعيل تضاعفوا اليوم بعد مشاريع التوسع في الصحراء ليصبحوا 10 مليون فدان ولكن كانت مصر 5 مليون نسمة وأصبحت 105 مليون نسمه أي تضاعفت الأرض الزراعية والتي هي مصدر الغذاء مرة واحدة ولكن تضاعف السكان 20 مره !
فتحولت مصر من دولة فائض في الموارد الطبيعية الي دولة عجز.. وأصبح لديها فائض كبير في الموارد البشرية يمثلون قوة اقتصادية عظيمة في الخارج، وما جعل مصر تظهر لكونها فقيرة أكثر من الناحية المادية اكتشاف النفط في دول الخليج العربي لتتبدل الأحوال، وتتغير قيمة العملات ويصبح المصريين الشعب المستقر بطبعه يغير طباعه ليكون من المهاجرين بحثا عن الرزق وتصبح قبلته الأولى للهجرة لبيئة كانت منذ أقل من نصف قرن بيئة صحراوية بدوية فقيرة ” دول الخليج العربي ” لتكون أكثر البلاد المستقبلة للعمالة المصرية وهذا أيضا من عجائب وسنن الأقدار.
ولا ننسي أن حجم سكان مصر قد يفوق اجمالي حجم سكان عشرة دول عربية مجتمعين (ليبيا – الامارات العربية المتحدة – قطر – البحرين – الأردن – الكويت – موريتانيا – جيبوتي – تونس – سلطنة عمان) فهل من المنصف أن نقارن مستوى دخل الفرد المصري مع غيره مع أي مواطن عربي آخر؟!

والحقيقة هذا التحليل السابق يتعرض للنقد الشديد عندما نتناول دول أخري أقل مواردا مثل اليابان والتي كسرت قاعدة ضرورة الارتباط الدول الثرية بموارد طبيعية مهولة ، وهي تعتبر الاستثناء فهي نموذج متفرد بطبعه ،وان ظلم الطبيعة لليابان لأشد من ظلمها لاي بلد آخر ، بلد يمر عليها خط النار الشهير بمناطق تركز الزلازل والبراكين ، 80% من مساحتها جبال ، دولة غير مندمجة عبارة عن مجموعة جزر بركانية في قلب المحيط الهادي ، دمرت في الحرب العالمية الثانية ، بلا مصادر طاقة أو معادن تذكر، مناخ وموقع متطرف …ورغم ذلك دولة متقدمة من الطراز الرفيع لذلك لا يمكن ان نضع اليابان في مقارنة مع اية دولة اخري لنقول “كوكب اليابان ” ليس له علاقة بمقاييس الأرض لما يمتلكه شعب اليابان من خصائص فريدة من نوعها ولا سيما في المجالات التقنية والتي لا تتطلب مواردا طبيعية بقدر ما تتطلب مهارات بشرية . فالمعادلة الصعبة في ثقافة الشعب الياباني وحالته الذهنية وتقدمه العلمي وابتعاده عن الثورات والحروب وانعزاله الجغرافي بعيدا عن مشكلات الحدود السياسية، وثبات معدل سكانه لفترات طويلة بل في تناقص مستمر كل هذه عوامل جعلته من مصاف الدول المتقدمة.

وعليه يمكن أن نحدد نوعين من الثراء:
الثراء المادي لدولة ما هو كل ما تمتلكه الدولة من أشياء يمكن بيعها وشرائها، سواء كان نفط، احتياطي ذهب، أسهم في البنوك، وكل ما يتعلق بالموارد الطبيعية التي تمتلكها الدولة.. فالثراء المادي يمكن حسابه وقياسه وتقديره، وينعكس على مستوى دخل الافراد وطريقة معيشتهم.. بينما الثراء المعنوي هي الأشياء التي تمتلكها الدولة ولا يمكن شرائها وبيعها ولا تنعكس بالضرورة على مستوي الدخل لتلك الافراد.. مثل تاريخ الدولة الممتد وهويتها وروحها وعقيدتها وتماسكها الوطني والأنثروبولوجي وعقيدة جيشها وكل ما تمتلكه من فنون وآداب وقوة ناعمة ورصيدها الثقافي وفولكلورها وآثارها الباقية..
وتلك الأشياء هي من تجعل لدولة ما طعم ورائحة وشخصية ولون خاص يميزها عن غيرها وهذا ثراء ليس بعده ثراء، في حين أن هناك دول كثيرة غنية جدا ماديا ولكنها بلا لون ولا رائحة ولا شخصية تميزها كأمة بين الشعوب..
إن الفقر ليس وضعا اقتصاديا فقط، إنه وضع من أوضاع البشر، وضع عام، يتصرف فيه الناس بفقر ويفكر بفقر، ويسمع بفقر، ويتذوق بفقر، بمعنى آخر هو مرض يصيب الاقتصاد والعقول ويصيب الخيال أيضا..

والحقيقة أن الشعور بالفقر مسألة نفسية بحتة ويختلف وفقا لقوة شخصية الانسان ونظرته للحياة وعزة نفسه، فكيف لشخص يعيش في أقدم دولة حضارية على سطح الأرض أن يشعر بالفقر لمجرد عدم امتلاكه أشياء مادية بحتة ؟!، فالمصري أكثر انسانا على وجه الأرض يشعر بالغني والدفء حتى وان كان قوت يومه نصف رغيف وحفنة فول وكوب شاي.
ستظل مصر غنية جدا حتى وان كانت تعاني مادياً نتيجة لهذا الثراء المعنوي وهي أغني الشعوب لما تمتلكه من جيش وطني وشعب أصيل لا يعاني من طائفية ولا تمزق وتراث ثقافي وحضاري وفني وأدبي لا تمتلكه أية دولة قي العالم، وطبقة متوسطة تجعل للحياة الاجتماعية اتزانا وأملاً يجب الحفاظ عليها.
فالمعاناة المادية قد تتبدل وتتغير الأحوال لكن لا شك ان الثراء المعنوي هو الباقي وهو الأهم،
ونهاية الحكم أن مصر دولة غنية جدا في الثراء المعنوي وفقيرة أو نقل أقل من المتوسطة في ثرائها المادي والتي تحدده الأمم المتحدة وفقا لظروف كمية حيث حددت من يعيشون تحت خط الفقر وفقا لعدد معين من الدولارات من لا يمتلكه فهو فقير هذا أمر كمي لا علاقة له بالحقيقة وجعل الكثيرين جدا من المصريين فقراء والواقع قد يلخصه الكاتب جبران خليل جبران عندما قال بطريقته الأدبية “هناك أناس فقراء جدا لا يمتلكون الا المال ” والحقيقة انا شخصيا معدل دخلي أقل ما حددته الأمم المتحدة ورغم ذلك لن يرادوني شعور الفقر يوما ما فالشعور بالأمن والطمأنينة ودفء الوطن لا يضاهيه أي ثمن.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى