تقاريرسلايدرمعرفة

معمل التحنيط في سقارة.. أسرار الكيمياء عند المصريين القدماء

إعداد: بسنت عماد

لم تكن الأهرامات وحدها الدليل على عبقرية المصريين القدماء. ففي صيف 2016، وبين الرمال الذهبية لجبانة سقارة، ظهر اكتشاف غير مسبوق: معمل تحنيط كامل، مدفون على عمق اثني عشر مترًا، بجوار هرم أوناس.

الاكتشاف الذي جاء ثمرة تعاون بين بعثة مصرية ألمانية، كشف عن أسرار ظلت غامضة لعقود، وأعاد الاعتبار للمصريين القدماء كرواد في علوم الكيمياء والطب، لا كمهندسي بناء فحسب.

رحلة الاكتشاف

في إحدى حملات التنقيب قرب هرم أوناس، عثر علماء الآثار على بئر يؤدي إلى غرف واسعة تحت الأرض. كانت المفاجأة أن هذه الغرف ليست مقبرة ملكية، بل ورشة مجهزة بأدوات دقيقة: أسرّة حجرية، أواني فخارية، وجرار كانوبية.

الأكثر إدهاشًا أن الأواني احتفظت بنقوش مكتوبة عليها تعليمات واضحة مثل: “للفّ الجسد” أو “يوضع على الرأس”.

لم يكن الاكتشاف مجرد بقايا أثرية، بل كتاب مفتوح يشرح بعض خطوات التحنيط.

مختبر كيميائي قبل 2600 عام

التحقيقات لم تتوقف عند حدود الاكتشاف الأثري. فقد أُرسلت عينات من محتويات الأواني إلى معامل متخصصة في ألمانيا، حيث خضعت لتحليلات بتقنية الكروماتوغرافيا الغازية – الطيفية (GC-MS).

كشفت النتائج عن وصفات مركبة ومعقدة، تؤكد أن التحنيط لم يكن مجرد طقس ديني، بل ممارسة علمية تعتمد على معرفة دقيقة بخواص المواد الطبيعية.

المكونات.. وصفات تحفظ الأجساد

ـ أظهرت التحاليل أن المصريين القدماء استخدموا تشكيلة واسعة من المواد:

ـ زيوت الأرز والعرعر والسرو: لتعقيم الأنسجة الداخلية ومنع نمو البكتيريا.

ـ شمع العسل: لحماية الجلد وإضفاء صلابة على الجسد.

ـ دهون حيوانية: لإغلاق المسام والحفاظ على الرطوبة الداخلية.

ـ أصماغ نادرة مثل Elemi وDammar: مواد عطرية ذات خصائص مضادة للبكتيريا، جُلبت من مناطق بعيدة عن مصر .

ـ اللافت أن كل مادة كانت مخصّصة لوظيفة محددة، تمامًا كما يحدث في مختبرات الكيمياء الحديثة.

التسميات القديمة

لأكثر من قرن، كان الباحثون يعتقدون أن أسماء مثل “antiu” تشير ببساطة إلى المر أو اللبان.. لكن التحاليل الجديدة كشفت أن هذه المصطلحات كانت تعني وصفات مركبة تختلف مكوناتها حسب المرحلة: مواد للتطهير الداخلي، وأخرى لمعالجة الجلد، وثالثة للفّ الجسد.

هذه النتيجة قلبت كثيرًا من المفاهيم الراسخة، وأثبتت أن المصريين القدماء كانوا يملكون لغة علمية دقيقة للتعامل مع الكيمياء.

تطابق النصوص مع المحتوى

القيمة الأكبر لمعـمل سقارة أنه ولأول مرة وُجدت نصوص على الأوعية تتطابق مع محتوياتها.
فما كُتب “يوضع على الرأس” ثبت أنه خليط زيتي معطر خاص بالجلد والشعر، وما دوّن “للفّ الجسد” تبيّن أنه تركيبة لحماية اللفائف الكتانية.

هذا التطابق منح الباحثين فرصة غير مسبوقة لفهم التحنيط من الداخل، لا عبر المومياوات فقط، بل من خلال الأدوات والمواد المستخدمة.

شبكة تجارة عابرة للقارات

إحدى المفاجآت أن كثيرًا من المواد المكتشفة لم تكن موجودة في وادي النيل. أصماغ مثل Elemi وDammar مصدرها جنوب شرق آسيا، والزيوت العطرية استُوردت من شرق المتوسط وربما من شبه الجزيرة العربية.

هذا يعكس أن التحنيط كان صناعة معقدة تعتمد على شبكة تجارية واسعة، ما يجعل المصريين القدماء جزءًا من حركة تبادل عالمي قبل أكثر من ألفي عام.

شهادات المجتمع العلمي

لم يقتصر صدى اكتشاف معمل سقارة على الأوساط الأثرية في مصر، بل امتد إلى كبرى الدوريات العلمية.

ـ مجلة Nature وصفت التحليل الكيميائي للأواني الفخارية بأنه “أول دليل مباشر يربط بين النصوص المصرية القديمة ومحتوى المواد المستخدمة فعليًا في التحنيط”، مؤكدة أن النتائج تفتح بابًا جديدًا لفهم لغة الكهنة ومصطلحاتهم العلمية.

ـ Scientific American نشرت تقريرًا بعنوان “مواد مفاجئة استُخدمت في تحنيط المومياوات المصرية”، مشيرة إلى أن اكتشاف أصماغ آسيوية مثل Elemi وDammar يبرهن على وجود شبكة تجارة عابرة للقارات قبل 2600 عام.

ـ أما Live Science فقد أبرزت الجانب الأثري قائلة إن ورشة سقارة تُعد “مختبرًا جنائزيًا متكاملًا” يوضح بالتفصيل مراحل التحنيط، من معالجة الرأس وحتى لفّ الجسد بالكتان.

أهمية الاكتشاف

ورشة سقارة ليست مجرد كشف أثري؛ إنها دليل حي على أن المصريين القدماء كانوا علماء كيمياء بارعين. لأول مرة تتلاقى النصوص مع التحليل العلمي لتكشف لنا صورة مكتملة عن فنون التحنيط.

هذا الاكتشاف أعاد تعريف التحنيط كعلم متكامل، يجمع بين الطب والكيمياء والدين والتجارة.

سقارة يكسر الصورة النمطية

معمل التحنيط في سقارة يكسر الصورة النمطية عن المصريين القدماء.. فهم لم يكونوا بناة أهرامات وحسب، بل روادًا في علم الكيمياء، يبتكرون وصفات دقيقة لحفظ الأجساد، ويعتمدون على شبكة تجارة عالمية لتأمين المواد اللازمة.

وهكذا يؤكد هذا الكشف أن الأهرامات لم تكن الاستثناء الوحيد، بل جزءًا من حضارة شاملة امتدت إنجازاتها من فنون البناء إلى أسرار التحنيط وعلوم الكيمياء.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى