محمد طارق فاضل يكتب: دلالات سياسية ورسائل رمزية.. شراكة مصرية-فرنسية تتعمق في زمن الأزمات

في زيارة تحمل أبعادًا تتجاوز البروتوكول السياسي، استقبل الرئيس عبد الفتاح السيسي نظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون في القاهرة، في لحظة فارقة تمر بها المنطقة. لم تكن الزيارة مجرد تبادل للتحية أو مناقشة للملفات المشتركة، بل جاءت محملة برسائل متعددة الاتجاهات، من خان الخليلي إلى العريش، مرورًا بالمواقف الإنسانية والسياسية الدقيقة، في ظل حرب مستعرة على حدود مصر الشرقية.
اصطحب الرئيس السيسي نظيره الفرنسي في جولة بحي الحسين وخان الخليلي، وهما من أكثر المناطق ازدحامًا في القاهرة. تعكس هذه الجولة قدرة مصر على تأمين المناطق الحيوية، وتبرز الاستقرار الأمني الذي تتمتع به البلاد. كما ترسل رسالة واضحة بأن القيادة المصرية متواجدة بين شعبها، وتؤكد رفضها لأي محاولات لتهجير السكان أو التأثير على النسيج الاجتماعي المصري.
في اليوم التالي للزيارة، استقبل الرئيس السيسي الرئيس الفرنسي ماكرون بمراسم استقبال رسمية، وعُقدت القمة الثلاثية بين الرئيس السيسي ورئيس فرنسا وملك الأردن. لم يتم توجيه الدعوة للرئيس الفلسطيني محمود عباس، ويُفسّر هذا التجاهل على أنه رسالة واضحة بأن مصر لا تنحاز لأي طرف فلسطيني على حساب الآخر، بل تسعى لتحقيق مصلحة الشعب الفلسطيني ككل، وتدعم الجهود الرامية إلى تحقيق الوحدة الوطنية الفلسطينية.
مواقف مصر الثابتة تجاه التهجير ووقف إطلاق النار:
على هامش القمة، تبرز المواقف المصرية الثابتة تجاه التهجير ووقف إطلاق النار. في لقاء جمع الرئيسين السيسي وماكرون وملك الأردن مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، أكدت مصر رفضها القاطع لأي محاولات لتهجير الفلسطينيين من قطاع غزة، وقدّمت مقترحًا مصريًا جديدًا لوقف إطلاق النار وإنهاء الحرب. لاقى هذا المقترح دعمًا من الرئيس الفرنسي، مما يعكس توافقًا دوليًا على الرؤية المصرية لحل الأزمة.
زيارة العريش والجهود الطبية المصرية:
في اليوم الأخير من الزيارة، استقبل الرئيس السيسي ماكرون في مطار العريش، ومن ثم قاما بجولة في مستشفى العريش ولقاء مع الجرحى الفلسطينيين، بالإضافة إلى زيارة مخازن الهلال الأحمر المصري التي تضم مساعدات موجهة لقطاع غزة. أكد ماكرون من العريش أن غزة ليست “مشروعًا عقاريًا”، بل يعيش فيها مليونا شخص “محاصر”، داعيًا إلى فتح المعابر وإدخال المساعدات ووقف إطلاق النار في القطاع.
خلال زيارة الرئيسين لمستشفى العريش، استعرض الدكتور خالد عبد الغفار، وزير الصحة المصري، الجهود التي تبذلها الدولة المصرية لتوفير الرعاية الصحية والعلاج اللازم للمصابين الفلسطينيين القادمين من قطاع غزة. أشار في هذا الصدد إلى استقبال مصر نحو 107 آلاف فلسطيني، أجريت لهم الفحوصات الطبية اللازمة، كما تم تطعيم 27 ألف طفل فلسطيني. استقبلت المستشفيات المصرية أكثر من 8 آلاف مصاب فلسطيني يعانون من جروح متفرقة، برفقة 16 ألف مرافق، وتم إجراء أكثر من 5160 عملية جراحية. استقبلت 300 مستشفى في 26 محافظة بمصر المصابين والمرضى الفلسطينيين، بينما يتواجد حاليًا مصابون فلسطينيون في 176 مستشفى موزعين على 24 محافظة بمصر، مع توفير الإقامة والإعاشة لكافة المرافقين لهم.
فيما يتعلق بجهود الإسعاف المصرية، فقد تم تخصيص 150 سيارة إسعاف في محافظة شمال سيناء لاستقبال الحالات القادمة عبر المعبر من الهلال الأحمر الفلسطيني، ثم توزيعهم على المستشفيات المصرية بمشاركة 750 مسعفًا وسائقًا.
وأضاف وزير الصحة أن إجمالي تكلفة الخدمات الطبية التي قدمتها مصر بلغت نحو 578 مليون دولار، ومن المتوقع أن تصل إلى مليار دولار، لا سيما مع تحمل الدولة نفقات الإعاشة والاستضافة والإقامة، وأخذًا في الاعتبار أن حجم المساعدات العينية التي تلقتها مصر من الدول لا يتجاوز 10% من إجمالي التكلفة التي تحملتها منذ بدء الأزمة.
كما خصصت وزارة الصحة 38 ألف طبيب و25 ألف ممرض بمختلف التخصصات للتعامل مع الحالات المرضية، إلى جانب توفير العلاج اللازم للحالات المزمنة من القادمين من قطاع غزة. أوضح الوزير أن الرئيس كلف الحكومة، وخاصة وزارة الصحة، منذ بداية الأزمة باتخاذ كافة التدابير والإجراءات اللازمة للتخفيف من معاناة الأشقاء الفلسطينيين.
خلال زيارة الرئيسين لمستشفى العريش، التقى السيسي وماكرون بعدد من الجرحى الفلسطينيين الذين يتلقون العلاج. في إحدى اللحظات، طلبت سيدة فلسطينية من الرئيس السيسي التدخل لإنهاء الحرب في غزة، فرد عليها السيسي: “قولي للرئيس ماكرون”. وفي موقف آخر، سأل ماكرون إحدى المريضات عن موعد وصولها إلى المستشفى، فأجابت: “17 مارس في الهدنة”. كرر السيسي ملاحظتها قائلاً: “قوليله تاني في الهدنة، في الهدنة، في الهدنة”، في إشارة إلى أهمية فترات الهدنة في تقديم المساعدات الإنسانية.
ثمار الزيارة: خطوات نحو الاعتراف بدولة فلسطين
بعد أقل من يومين على عودته من مصر، أعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أن فرنسا قد تعترف رسميًا بدولة فلسطين في يونيو 2025. وأشار ماكرون إلى أن هذا الاعتراف سيكون جزءًا من مبادرة دولية أوسع لتعزيز السلام في الشرق الأوسط، مؤكدًا أن الاعتراف لن يكون رمزيًا أو سياسيًا فقط، بل يهدف إلى تحقيق تقدم حقيقي في عملية السلام.
ختامًا: مصر تُرسّخ مكانتها كقوة دبلوماسية مؤثرة في الشرق الأوسط
تُبرز زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى مصر، وما تبعها من تطورات، الدور الريادي لمصر في صياغة المشهد السياسي الإقليمي والدولي. من خلال التحركات الدبلوماسية المدروسة والرسائل الرمزية العميقة، أكّدت القيادة المصرية التزامها الثابت بدعم الاستقرار والسلام في المنطقة، مع الحفاظ على مصالحها الوطنية وسيادتها.
النتائج الملموسة لهذه الزيارة، بما في ذلك إعلان فرنسا نيتها الاعتراف بدولة فلسطين، تعكس التأثير الإيجابي للدبلوماسية المصرية في تشكيل التوجهات الدولية نحو القضايا العربية. تؤكد هذه التطورات أن مصر ليست مجرد مراقب، بل هي فاعل رئيسي يسهم بفعالية في تحقيق السلام والتنمية لشعوب المنطقة.