مقالات

محمد فؤاد البري يكتب: سر العلاقةبين نابليون بونابرت ومحمد علي

يعد نابليون أحد أبرز القادة العسكريين في التاريخ، وتدرس حملاته في المدارس الحربية حول العالم، ورغم ذلك انقسمت الآراء حوله. حيث يراه معارضوه طاغية جباراً حول فرنسا إلى امبراطورية، وزع المناصب والألقاب على أسرته ودخل مغامرات عسكرية دمرت الجيش، فإن محبيه يرون رجل دولة وراعياً للحضارة، اذ ينسب إليه القانون المدني الفرنسي الذي وضع الأسس الإدارية والقضائية لمعظم دول أوربا الغربية، والدول التي خضعت للاحتلال الفرنسي في العصور اللاحقة.
على الجانب الآخر محمد علي يعتبره المؤرخين المؤسس الحقيقي للدولة المدنية الحديثة في مصر وأنه أول حاكم في التاريخ يحكم بإرادة واختيار المصريين، والبعض يرونه شخص سفاح مستشهدين بمذبحة المماليك سنة 1811، جاء ليحقق طموحه الشخصي فقط وهو صناعة امبراطورية خاصة له وأسرته من بعده..
نابليون تعلم في أرقى المدارس الحربية على النقيض محمد علي كان شخص أمي لا يقرأ ولا يكتب، تعلم على كبر ولكنه كان يعرف متي وكيف يستفيد من المثقفين وأصحاب التجارب ويستخدمهم لتحقيق أهدافه حتى وصفه البعض أنه ” الديكتاتور المستنير“..
ولكن السؤال.. ما سر العلاقة بين نابليون بونابرت ومحمد على؟
رغم أنهم لم يلتقيا ولا مرة وجهاً لوجه ففي اللحظة الذي جاء فيها محمد على لمصر سنة 1800م، كان نابليون قد غادر مصر وعاد لفرنسا لمواجهة تحديات أخطر، ورغم ذلك ثمة صلة قدرية بينهما، فكان نابليون سبب ومحمد على نتيجة في بداية كتابة تاريخ مصر الحديث.
نابليون كان سببا في قدوم محمد علي لمصر، بعدما شن حملة عسكرية سنة 1798م المعروفة تاريخياً بالحملة الفرنسية علي مصر، أرسلت الدولة العثمانية بعد عامين حامية عثمانية للاشتراك مع الإنجليز في خروج الحملة من مصر وكان أحد أفرادها الجندي الألباني الشاب محمد علي..
رغم التناقضات الرهيبة في تكوين شخصية كلاهما والتي ترجع إلى انتماء كورسيكا البلد الذي ولد فيها نابليون لفرنسا، في حين انتماء قولة البلدة التي ولد فيها محمد علي للدولة العثمانية، ورغم تلاطم أمواج البحر الأبيض على تلك المدينتين وتفتح أعين الطفلين على شاطئ واحد إلا أنهم لم يعيشوا نفس الظروف ولم تتح لمحمد علي فرصة التعليم مثلما وجدها نابليون بونابرت وهذا للفارق الكبير في التقدم الحضاري بين فرنسا والدولة العثمانية حينذاك ولكن رغم ذلك ثمة تشابهات عديدة بينهما نجملها في نقاط:

  • الجنسية المكتسبة:
    كلاهما قاد وطن غير وطنه لبلوغ المجد.
    نابليون ولد في جنوة جزيرة إيطالية في الوقت التي كانت تسيطر عليها فرنسا، مما سمح له الانتقال إلى فرنسا ليدرس فنون القتال ويصبح رمزاً سياسياً هاما في تاريخ فرنسا.
    في الوقت نفسه انتقل محمد علي من ألبانيا إلى مصر ليصبح رمزاً هاما في مصر وينسب له بداية تاريخها الحديث.
    وبذلك فالجنسية إما أن تكون جنسية أصيلة للحق بالفرد فور ميلاده، وإما أن تكون جنسية طارئة يكتسبها الفرد في تاريخ لاحق على الميلاد وبهذا القانون يصبح نابليون فرنسي بالجنسية المكتسبة وإيطالي بالجنسية الاصيلة، كذلك محمد علي مصري بالجنسية المكتسبة ألباني بالجنسية الاصيلة.
  • الزمن:
    ولدوا في عام واحد حيث شهد العام “1769 م” ميلاد طفلين توقف عندهم التاريخ طويلاً.
  • دورهم في تغيير نظم التعليم:
    نابليون أنشأ نظام التعليم المدني الحديث مستقلا ًعن المدارس الكاثوليكية منذ ذلك التاريخ صار هناك نظامان فرنسيان للتعليم أحدهما مدني تشرف عليه الدولة والآخر ديني تشرف عليه الكنيسة، كرر محمد علي تلك التجربة متأثرا بالتجربة الفرنسية معتمداً في ذلك على فرنسا بشكل كبير فكانت لها معظم الارساليات والبعثات حيث ترك الأزهر قائماً وأسس المدارس الحديثة.
  • نظرتهم للدين
    وهي تطويع الدين لخدمة السياسة، ويفسر لنا أول خطاب لنابليون عند قدومه لمصر صحة ذلك حيث قال فيه ” إنني ما قدمت إليكم إلا لأخلص حقكم من يد الظالمين وانني أكثر من المماليك أعبد الله وأحترم نبيه والقرآن العظيم …” ثم بعد ذلك دخل جنوده جامع الأزهر بالخيول، نفس الأمر تكرر مع محمد علي في بداياته حيث تقرب من علماء الدين ومشايخ الأزهر ثم بعد ذلك عندما وصل للحكم وتحقق له ما أراد نفي “عمر مكرم” نقيب الأشراف وهمش دور العلماء والأزهر بعد ذلك حيث خالف وعوده معهم التي أبرمها قبل توليه الحكم وهي ألا يتخذ قرار إلا بمشورتهم.

الحروب:
كلاهما خاض معارك عديدة لرغبتهم في تكوين إمبراطورية لا تقهر وهذا يفسر تشابه الكوامن النفسية في طموح كلا الزعيمين.. وهي حب الذات والمجد الشخصي بعيداً عن العمل لمصلحة الجماعة.

  • انجلترا هي نهاية الأحلام:
    حيث تحطمت امبراطوريتهم على أيدي” الانجليز”، بعد هزيمة نابليون في معركة واترلو 1815 استسلم بونابرت وانهار نفسياً وعسكرياً حتى مماته في المنفي، في حين معاهدة لندن 1840 وحصار الإنجليز لسواحل مصر والشام كانت السبب الأقوى في انهيار الإمبراطورية التي كانت على وشك ان تنقض علي السلطان العثماني وتنقل الخلافة من اسطنبول إلى القاهرة.. بعد معاهدة لندن انتهي مشروع محمد علي الذي قطع فيه شوطاً كبيرا مما أدى إلى ضعف قواه العقلية حتى دفن في مسجده بالقلعة.
    ختاماً إن الدول تنتقل من عصر إلى آخر نتيجة لمجموعة من المتغيرات الحضارية في كافة النواحي (السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية) حيث تتغلغل في نسيج المجتمع ليصبح في النهاية مجتمعاً جديداً يختلف عن الفترة السابقة.
    فالمجتمع المصري قبل قدوم محمد علي ليس هو نفس المجتمع بعد مجيء محمد علي وكانت الحملة الفرنسية مجرد تنبيه أو جرس انذار لتوضيح مدى الفارق الكبير بين روح العصور الوسطي وروح العصر الحديث.
    مصر أثناء الفترة العثمانية فاتها الكثير، فلم تكد تعرف عن الحضارة الحديثة شيئاً بل لم تشارك فيها: النهضة الأوروربية، الكشوف الجغرافية، الإنقلاب التجاري والاستعمار الخارجي، عصر التنوير والإصلاح الديني، عصر الحرية والثورات السياسية والاجتماعية، عصر القومية ونشأة فكرة الدول الوطنية الحديثة، الثورة العلمية والانقلاب الصناعي، أساليب الحرب الحديثة ونشأة المدارس المدنية.. الخ
    النتيجة؟ في هذه الفترة تحولت مصر تقريباً الي شيء أشبه “بأهل الكهف” الذين لبثوا في كهفهم ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعاً( الغريب أن الفترة العثمانية من الغزو 1517 حتي وصول الحملة الفرنسية 1798 لا تقل كثيراً نحو 281سنة ) وكما استيقظ أهل الكهف ليجدوا أنفسهم في عالم غريب تماماً، استيقظت مصر من سباتها الوسيط على طرقات نابليون بونابرت.. لتجد نفسها أمام عالم آخر تماما كما لو كان من كوكب آخر، لقد تحول مصنع الحضارة القديم ومتجرها السابق إلى ” متحف” للحضارة على أحسن تقدير كما يصفه جمال حمدان.. انكمشت مصر إلى 2,5 مليون نسمة عند قدوم الحملة الفرنسية لمصر وكان الجندي الألباني محمد علي في حاجة لتقليص القرون إلى عقود لمجاراة الواقع الحديث.
    وستظل شخصية نابليون ومحمد علي محل جدل بين المؤرخين للنهاية إلا أنهما لا جدال كانوا سبباً مباشراً في هروب مصر من جمود الأتراك العثمانيين.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى