
في مؤتمر عقد في “الجمعية المصرية للدراسات التاريخية ” حضره عدد من الباحثين في التاريخ الإسلامي وعدد من الموجهين لمادة التاريخ في التربية والتعليم. لا أتذكر عنوان المؤتمر ولكن أتذكر جيداً الخلاف الذي حول القاعة إلى فوضى حينما قال المحاضر جملة “الغزو التركي لمصر سنة 1517″ وقبل أن يستكمل حديثه وقف عدداً ليس بالقليل معترضاً بلغة حادة إنه” فتحاً” وليس “غزواً “؟!
ودارت المناقشة عن الفارق بين المفهومين واتضح أن هناك جدل كبير ناتج عن سوء فهم طبائع الأمور.. هناك عقبات تمنع العقل عن رؤية الحقيقة فيراها مشوشة، وكان الغرض من المؤتمر تصحيح بعض المفاهيم الخاطئة وتطوير مناهج التاريخ، وكان الانطباع غير جيد عندما تحدث عدد من الموجهين والمفترض هؤلاء هم المشرفين على طريقة شرح التاريخ في مدارسنا ومتابعة وتوجيه المعلمون وللأسف عند مناقشة موجهين مادة التاريخ لا يعرف معظمهم أن يناقش الفارق بين التاريخ وفلسفة التاريخ، بين الفتوحات والغزوات، بين تاريخ المسلمين والتاريخ الإسلامي، بين الثورات والانقلابات الخ
وأصر عدد منهم أن دخول الاتراك مصر يعتبر فتحاً لأنها خلافة إسلامية!
وان كان المقياس ديني فيسقط لأن الأتراك دخلوا مصر وهي دولة إسلامية سنية وليست دولة وثنية، ومصر في العموم تعرف الأديان قبل معرفة الأتراك بها، وتعرف الأديان قبل عمرو بن العاص نفسه الذي ارتبط اسمه ب ” فتح مصر “.
فهل دخول الأتراك مصر وشنق سلطانها المسلم يعد فتحاً مبيناً ونصراً عظيماً؟
هل تحويل مصر من دولة مستقلة عاصمتها القاهرة إلى مجرد ولاية عثمانية يعد فتحاً؟
هل تفريغ القاهرة من مبدعيها وارسالهم إلى إسطنبول يعد فتحاً؟
هل فرض الضرائب على المصرين لمدة أربع قرون وارسالها لخزينة السلطان في تركيا دون عطاء خدمات حقيقية للمصريين يعد فتحاَ؟ وهل الفتح أن تأخذ ولا تعطي؟!
وبالتالي ليس من المنطق أن نطلق على توسعات سليم الأول في مصر والشام أنها فتوحات إسلامية.. بقدر ما هي تطلعات امبريالية باسم الدين.. تأخرت خلالها مصر وبلاد الشام ثلاث قرون عن الحضارة الحديثة.
الحقيقة أن الفئة القليلة المعترضة على كلمة غزو ومصرة أن تبقي فتح تعبر عن فئات أخرى مازالت موجودة في المجتمع المصري، ومنهم المغرمين بمسلسل “أرطغرل” الموهومون بفكرة الخلافة دون التمييز بين مفهوم الوطن ومفهوم الخلافة ومفهوم الدين.
الخلافة في الأصل هي رئاسة عامة في الدين والدنيا قائمة علي مبدأ الشوري وقد يسميها البعض الإمامة أو الولاية وبهذا المفهوم تعتبر الخلافة الحقيقية انتهت مع مقتل الإمام علي بن أبي طالب، ما جاء بعد ذلك هي طموحات سياسية فردية أو قبلية ليس لها علاقة بالرسول ولا الدين وان اخذت الإسلام غطاءاً في فرض السيطرة.
قد نقول لا فرق بين الإمبراطورية الرومانية والامبراطورية الأموية مثلاً أو الفاطمية والفارسية.. ان تسمية “الإمبراطورية الأموية ” بمسمى الخلافة الأموية” خطأ جوهري وإدانة للإسلام، نعم هي دولة نجحت عسكريا في ضم الكثير من البلاد تحت سيطرتها ولكن هي بعيدة كل البعد عن مفهوم الخلافة لأنها قامت أساسا بعدما هدمت أهم ركنين في الخلافة وهما:
مبدأ الشوري و مبدأ عدم توريث الحكم.. هذا بالإضافة لكونها الدولة التي قام جيشها بقتل الحسين ومن معه من بيت النبوة في موقعة كربلاء، وقس على ذلك كل الدول التي قامت في التاريخ الإسلامي بعد وفاة الرسول تحت مسمى خاطئ وهو “الخلافة ” وكانت آخر تلك الدول “الدولة العثمانية ” والتي مازالت عاصمتها “استطنبول ” تمثل مصدر حنين لكل عاشق لفكرة الخلافة المجيدة، دون أن يعرف ماذا قدمت لبلده من مكاسب لتستحق كل هذا التمجيد، بالنسبة لمصر أعتقد أن الحملة الفرنسية التي استغرقت ثلاث أعوام فقط أفادت مصر حضارياً وثقافيا مقارنة ب ثلاث قرون تحت راية الخلافة المتجمدة.
وهذا هو فكر الإسلاميون بمختلف مسمياتهم في كافة المجتمعات العربية سواء إخوان في مصر أو حماس في غزة أو داعش في العراق أو جبهة تحرير الشام في سوريا الخ ومازالت تركيا كدولة بحكمها الإسلامي تساعد تلك الشراذم بكل قوة ولما لا وهي تعتبر نفسها أرض الخلافة، وقد يتعجب البعض عندما نقول أن هناك تشابه بين الإسلام السياسي الذي مازال يعيش على أحلام عودة الخلافة والجهاد، وحزب “الليكود المتطرف ” وهو حزب سياسي إسرائيلي، يؤمن بفكرة “إسرائيل الكبرى” من النيل للفرات، و”خصوصية الأمة اليهودية وضرورة استلهام وإحياء تراثها”. ومن هنا لا يختف اليهود المتطرفين والإسلاميين المتطرفين عن الفهم الصحيح لمعني الدول واحترام خصوصيات وثقافة الشعوب والأقليات. أي أن فكرة الخلافة عند الإسلاميين يقابلها فكرة إسرائيل الكبرى عند اليهود وكلاهما ضد الحتمية الجغرافية والحتمية التاريخية.
وعلم التاريخ لا شك انه من أخطر العلوم إن أساء تدريسه وأصبح مجرد وجهات نظر تعبر عن ميول فردية، وسياسة التعليم المصري مؤخرا أعطى للتاريخ الوطني اهتماما بالغاَ حتي تم تطبيقه في نظام البكالوريا علي جميع الأقسام ولكن هذا لا يكفي قد تذهب كل الجهود الإصلاحية هباء إن وكلت الأمور لعقليات منغلقة.



