Jannah Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.
تقاريرسلايدر

ماذا تعرف عن استراتيجية “القفازات القذرة”؟

إعداد: رحمه حمدى

ماذا تفعل عندما يتسخ القفاز الذي استعملته؟ بديهيا سوف تتخلص منه!! لكن ماذا لو كانت “القذارة” هي اغتيال، أو تفجير، أو شن حرب؟ وماذا لو كان “القفاز” هو مجموعة من البشر، أو دولة بأكملها؟ هنا، تتحول هذه البديهية البسيطة إلى واحدة من أخطر استراتيجيات القوة في العالم، حيث لا يتم التخلص من “القفاز القذر”، بل يُرمى به بعيدًا لينكر صاحبه أي علاقة له به، بينما تتحقق أهدافه كاملة في الخفاء.هذه ليست نظرية مؤامرة، بل هي منهج عمل استراتيجي معقد وله اسم في أدبيات السياسة الدولية: “أسلوب القفازات القذرة”

بعد ثورة 1952 تبنت مصر سياسة عدم الانحياز، سعت إسرائيل إلى تخريب العلاقات المصرية-الأمريكية والبريطانية عن طريق شبكة تجسس يهودية مصرية (وُصفت لاحقًا بأنها “خلايا نائمة”). خططت الشبكة لتنفيذ عمليات تفجير ضد أهداف أمريكية وبريطانية في القاهرة والإسكندرية (مثل دور السينما والمكاتب البريدية الأمريكية، والمكتبات التابعة للمجلس الثقافي البريطاني).

 فشلت الخطة، وتم القبض على أفراد الشبكة، وحُكم على اثنين بالإعدام (د. موسى مرزوق وصموئيل عازار) وآخرين بالسجن. في البداية، أنكرت إسرائيل أي علاقة بها، ولكن تم الكشف لاحقًا أن الأمر كان عملية سرية (“العملية السيئة”). أدت الفضيحة إلى استقالة وزير الدفاع الإسرائيلي، بينهاس لافون، ومن هنا جاء الاسم “فضيحة لافون (Lavon Affair)”

هذا مثال صارخ حيث استُخدم مواطنون محليون كـ “قفازات قذرة” لتنفيذ هجمات وإلقاء اللوم على طرف آخر.

ما هو أسلوب “القفازات القذرة”؟

يعتمد هذا الأسلوب على مبدأ “إنكار المعقولية” (Plausible Deniability). بمعنى آخر، هو تنفيذ عمليات أو نشر معلومات أو إشعال صراعات عبر وكلاء أو كيانات وسيطة (القفازات)، مما يسمح للجهة الرئيسية (اليد) بتجنب المسؤولية المباشرة والتبعات القانونية أو الدبلوماسية، مع ضمان تحقيق مصالحها.

هذه “القفازات” يمكن أن تكون:

– جماعات مسلحة غير تابعة للدولة (مليشيات، جماعات تمرد، مرتزقة).

– شركات أمنية خاصة

– مؤثرين ووكالات علاقات عامة.

– مخترقين ووكالات إلكترونية.

– منظمات مجتمع مدني وهمية.

– حلفاء سياسيين محليين في دولة أخرى.

كيف يتم تطبيقه على أرض الواقع؟

1. الحروب بالوكالة (Proxy Wars):أشهر أمثلة هذا الأسلوب. حيث تدعم دولة ما جماعة مسلحة في دولة أخرى لمحاربة خصم مشترك، مع الحفاظ على مسافة تسمح لها بإنكار تورطها المباشر. الصراعات في سوريا واليمن واليمين شاهدًا على هذا النموذج.

2.  الحرب الهجينة (Hybrid Warfare): هنا يمتزج الأسلوب العسكري التقليدي بأدوات غير عسكرية. يتم استخدام “القفازات القذرة” في:

  العمليات الإلكترونية: شن هجمات إلكترونية عبر مجموعات قرصنة يصعب تتبعها مباشرة إلى حكومة ما.

   حروب المعلومات: نشر حملات التضليل الإعلامي والشائعات عبر حسابات وهمية أو مؤثرين موالين، بهدف زعزعة استقرار دولة منافسة.

   استغلال الاحتجاجات: دعم وتوجيه حركات الاحتجاج الشعبية في دول أخرى بشكل سري لخدمة أجندة معينة.

3. الاقتصاد والسياسة: استخدام شركات وهمية أو وسطاء للالتفاف على العقوبات الاقتصادية، أو لرشوة مسؤولين أجانب دون ترك بصمة رسمية للحكومة.

لماذا تلجأ الدول إلى هذا الأسلوب؟

الدوافع متعددة ومتشعبة:

تجنب التكاليف المادية والبشرية: الحرب المباشرة مكلفة. استخدام الوكلاء يقلل من خسائر الجيش النظامي.

تجنب العواقب القانونية والدبلوماسية: انتهاك القانون الدولي أو سيادة دولة أخرى علنًا يؤدي إلى عقوبات وعزل دبلوماسي. الإنكار يحمي من هذه التبعات.

إرباك الخصم وإطالة أمد الصراع: يصعب على الخصم مواجهة عدو غير واضح المعالم، مما يؤدي إلى استنزاف موارده.

الحفاظ على الصورة العامة: تمكن الحكومات من تقديم نفسها كطرف “معتدل” أو “وسيط” للرأي العام المحلي والدولي، بينما هي في الواقع طرف فاعل في الصراع.

أمثلة كلاسيكية وتاريخية

1. الولايات المتحدة ونيكاراجوا (ثمانينيات القرن الماضي) “قضية إيران-كونترا”:

مولت وكالة الاستخبارات الأمريكية (CIA) ودربت وأسلحت جماعة “الكونترا” سراً بهدف الإطاحة بالحكومة اليسارية. عندما كُشف الأمر، كان الهدف هو “إنكار” التورط المباشر للولايات المتحدة في انتهاك قوانين دولية. تم تمويل الجزء من هذه العملية بشكل غير قانوني من خلال بيع أسلحة سراً لإيران (العدو في ذلك الوقت).

2. روسيا و”الرجال الخضر الصغار” في القرم (2014): عند غزو واحتلال شبه جزيرة القرم الأوكرانية، أنكرت روسيا في البداية أن هؤلاء الجنود هم تابعون لها، ووصفتهم بـ “متطوعين محليين” يدافعون عن أنفسهم. هذا الإنكار سمح لها بالسيطرة على المنطقة دون إعلان حرب مباشر في البداية، متجنبة رد فعل دولي فوري وحاد.

3. روسيا ومجموعة “فاغنر” (المرتزقة):

 تُستخدم فاغنر كأداة تنفيذ في مناطق مثل سوريا (للدفاع عن نظام الأسد)، ليبيا، جمهورية أفريقيا الوسطى، ومالي. تتيح لروسيا إنكار الخسائر بين صفوف جيشها النظامي، وتنفيذ عمليات عسكرية عدوانية مع الحفاظ على “الإنكار المعقول”. وفاة قائدها، يفغيني بريغوزين، في حادثة طائرة أثارت تساؤلات كبيرة حول من يمسك بالخيوط حقاً.

4.  إيران والشبكة الواسعة من “الوكلاء” (Axis of Resistance):

 تمول إيران وتدرب وتوجه هذه الجماعات لتعزيز نفوذها الإقليمي ومهاجمة أعدائها (مثل إسرائيل والولايات المتحدة وحلفائها) دون الدخول في مواجهة عسكرية مباشرة. عندما يهاجم الحوثيون سفناً في البحر الأحمر أو يهاجم حزب الله إسرائيل، يمكن لإيران أن تعلن رسمياً أنها ليست طرفاً مباشراً في الصراع.

5.  الهجمات الإلكترونية: مجموعة “Fancy Bear” الروسية:

  تم ربط هذه المجموعة بهجمات إلكترونية كبرى، أشهرها اختراق اللجنة الوطنية للحزب الديمقراطي في الولايات المتحدة خلال انتخابات 2016. استخدام مجموعة قرصنة يمنح الحكومة الروسية “إنكاراً معقولاً”، حيث يمكنها الادعاء بأن هذه أعمال لـ “قراصنة مستقلين” وليسوا عملاء تابعين للدولة.

6.  مزارع  (التدوير) والمؤثرون المواليون

  تستخدم هذه الحسابات لنشر التضليل الإعلامي، وتضخيم الروايات المؤيدة لها، وإثارة الفتن والانقسامات في المجتمعات المستهدفة (مثل نشر الشكوك حول الانتخابات أو اللقاحات في الغرب). يصعب إثبات التمويل المباشر من الحكومة، مما يوفر “غطاء” للعمليات التخريبية.

التحديات الأخلاقية والمخاطر:

أسلوب “القفازات القذرة” يمثل تحدياً صارخاً للمنظومة الدولية:تقويض سيادة الدول والقانون الدولي: يصبح من الصعب محاسبة المعتدي الحقيقي. تساعد على تأجيج الصراعات وتعقيدها من دخول وكلاء متعددين بأجندات مختلفة يجعل إيجاد حلول سياسية مهمة شبه مستحيلة.

انفلات الوكلاء من السيطرة، فقد تتحول “القفازات” إلى كيانات مستقلة تتبع أجندتها الخاصة وتشكل تهديدًا لمانحيها أنفسهم. تآكل الثقة الدولية عندما لا يمكن تحديد الفاعل الحقيقي، تتحول العلاقات الدولية إلى ساحة شك دائم.

لم يعد أسلوب “القفازات القذرة” تكتيكًا عابرًا، بل تحول إلى سمة أساسية في هندسة الصراعات المعاصرة. في عصر يتسم بترابط مصالح معقد وتقدم تكنولوجي يسهل التخفي، أصبح على الصحفيين والمحللين وصناع القرار تطوير أدوات أكثر حدّة لكشف الأيدي الخفية التي تتحكم بهذه “القفازات”. الفهم العميق لهذا الأسلوب ليس اختيارًا anymore بل هو ضرورة لفك شيفرة العالم من حولنا، حيث لم تعد الحروب تُخاض بالدبابات وحدها، بل أيضًا بالبيانات السرية، والحسابات الوهمية، والوكلاء الذين ينفذون المهمات تحت ظلال من الإنكار المعقول.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى