تقاريرسلايدر

ماذا تعرف عن أسلوب “الراية الخادعة”

إعداد: رحمه حمدى 

هل يمكن لخدعة واحدة أن تشعل حربًا؟ هل يمكن لكذبة مدروسة أن تغير مصير أمة؟ هذه ليست حوادث من أفلام التجسس، بل هي استراتيجية قديمة متجددة تحمل اسم “الراية الخادعة”، حيث تتحول الحقائق إلى أضاليل، وتبدأ المعارك بأكاذيب.

ما هو أسلوب “الراية الخادعة”؟

أسلوب “الراية الخادعة” هو أحد أخطر وأكثر تكتيكات “القفازات القذرة” تطورًا ودهاءً، هو عملية سرية يُنفذها أحد الفاعلين (دولة، منظمة، جماعة) بشكل يُجعلها تبدو وكأنها من تنفيذ طرف آخر. الاسم مستوحى من التاريخ البحري العسكري، حيث كانت السفن الحربية ترفع علمًا (“راية”) خادعًا لخداع سفن العدو وجعلها تعتقد أنها صديقة قبل الهجوم عليها.

الهدف الأساسي ليس فقط “الإنكار المعقول”، بل “الإسناد الكاذب”. أي توجيه اللوم والغضب والرد نحو هدف بريء لتحقيق مكاسب استراتيجية.

يعتمد نجاحها بشكل أساسي على عنصرين حاسمين. الأول هو التوقيت، حيث يجب أن تخدم الحادثة المفتعلة أجندة سياسية أو عسكرية قائمة بالفعل. والعنصر الثاني هو السردية الإعلامية، إذ يجب نسج رواية بسيطة ومؤثرة عاطفياً تنتشر بسرعة، وتطمس أي حقيقة أخرى قد تتعارض معها.

الفرق بينه وبين “القفازات القذرة”:

· القفازات القذرة: التركيز على استخدام وسيط لتنفيذ الهجوم وإنكار المسؤولية (مثل استخدام مليشيا للهجوم).

· الراية الخادعة: التركيز على تزوير هوية المهاجم لجعل الهجوم يبدو وكأنه صادر عن عدو أو ضحية محددة.

بمعنى آخر، كل عملية “راية خادعة” هي نوع من “القفازات القذرة”، ولكن ليس كل عملية “قفازات قذرة” هي “راية خادعة” (ما لم تشمل تزوير الهوية).

كيف ولماذا تُنفذ هذه العمليات؟

1. توفير ذريعة للحرب: هذا هو الهدف الأشهر. خلق حادثة مروعة تبرر شن حرب أو غزو كان مخططًا له مسبقًا، ولكن بحاجة إلى دعم شعبي أو شرعية دولية.

2. تأجيج الرأي العام: تنفيذ هجوم وإلصاقه بخصم لخلق غضب شعبي ضده، مما يسهل شن حملة قمع ضده أو تمرير قوانين استثنائية.

3. تضليل الخصم وتشتيت انتباهه: جعل العدو ينشغل بتهديد وهمي أو يوجه ضرباته نحو هدف خاطئ.

4. تأليب دول ضد بعضها: تنفيذ هجوم على حليف وإلصاقه بعدو، لدفع الحليف للانضمام إلى الصراع.

أمثلة تاريخية مشهورة (حقيقية ومزعومة)

على مدار التاريخ، شهد العالم أمثلة عديدة تم توثيقها لاحقاً. أحداث بدت للرأي العام في لحظتها الأولى وكأنها استفزاز واضح، ليتكشف لاحقاً، ربما بعد سنوات، أنها كانت مدبرة من الداخل لخدمة أغراض التوسع أو تعبئة الجيوش. هذه الأحداث لم تغير مسار التاريخ فحسب، بل شكلت وعي أجيال كاملة بناء على رواية مزورة.

1. حادثة “ماين” (1898) – الولايات المتحدة وإسبانيا

  انفجرت البارجة الأمريكية “يو إس إس ماين” في ميناء هافانا، كوبا (التي كانت تحت السيطرة الإسبانية آنذاك)، مما أسفر عن مقتل 266 بحارًا.

 الرواية (الراية الخادعة): شجعت الصحافة الأمريكية (بقيادة وليام راندولف هيرست) على الفور على أن الإسبان هم من نسفوا السفينة. الشعار الشهير كان: “تذكروا الماين! إلى الجحيم بإسبانيا.

و النتيجة أن استخدمت الولايات المتحدة الحادثة كذريعة لإعلان الحرب على إسبانيا، مما أدى إلى الحرب الأمريكية الإسبانية واستيلاء الولايات المتحدة على مستعمرات إسبانيا. ظهرت الحقيقة لاحقًا، حيث خلصت معظم التحقيقات الحديثة إلى أن الانفجار كان على الأرجح حادثًا (اشتعال عفوي للفحم أدى لانفجار مجاور للمخزن الرئيسي للذخيرة)، وليس هجومًا. لكن الرواية الخادعة نجحت تمامًا.

2. حريق الرايخستاغ (1933) 

 احترق مبنى البرلمان الألماني (الرايخستاغ) في برلين.

 الرواية (الراية الخادعة): ألقى هتلر والنازيون باللوم الفوري على الشيوعيين، ووصفوه بأنه بداية لانتفاضة مسلحة. استخدم هتلر الحادث كذريعة لتوقيع “مرسوم حريق الرايخستاغ” الذي علق معظم الحريات المدنية في الدستور الألماني، وبداية حملة قمع وحشية ضد المعارضين، خاصة الشيوعيين، وتمهيد الطريق لديكتاتوريته الكاملة. يعتقد معظم المؤرخين أن النازيين هم من دبر الحريق (أو على الأقل سمحوا بحدوثه واستغلهوا استغلالاً كاملاً) عن طريق الشاب الهولندي المنعزل مارينوس فان دير لوبي.

3. عملية “جليفيتز” (1939) – ألمانيا النازية:

هاجم جنود ألمان متنكرون بزي الجيش البولندي محطة إذاعة ألمانية على الحدود مع بولندا.

 الرواية (الراية الخادعة): قدم النازيون الهجوم على أنه اعتداء بولندي على الأراضي الألمانية. في صباح اليوم التالي، استخدم هتلر الحادثة كذريعة مباشرة لغزو بولندا، مما أشعل فتيل الحرب العالمية الثانية.

والحقيقة كانت العملية من تخطيط وتنفيذ الجستابو، وتم جلب سجين من معسكر اعتقال (معتقل سياسي ألماني) وقتله وترك جثته في مكان الهجوم ليكون “الدليل” على الاعتداء البولندي. أُطلق على الضحية اسم “الراية” كناية عن أنه طُعم للخداع.

4. في عصرنا الحالي، عصر السرعة الرقمية

أصبحت تقنيات الراية الخادعة أكثر تعقيداً وخطورة. لم تعد تقتصر على العمليات العسكرية السرية، بل امتدت إلى الفضاء الإلكتروني، حيث تنتشر الحملات المُنسقة والأخبار المزيفة، مدعومة بفيديوهات مفبركة باحترافية عالية هدفها إثارة الفتنة وخلق الفوضى.

يؤكد خبراء أمن المعلومات أن مواطني العصر الرقمي أصبحوا على خط المواجهة الأول. قدرتهم على تمحيص المعلومات، والتساؤل حول مصدرها، والبحث عن الروايات المتعددة لم تكن يوماً أهم مما هي عليه الآن. الحل الوحيد لمجابهة هذه الظاهرة هو تبني عقلية نقدية، ورفض التسرع في الحكم، والتمسك بالحقائق المؤكدة وليس بالعواطف المُتأججة.

ضمن السياق التاريخي والسياسي لمصر، يثار الجدل حول عدد من الحوادث التي يعتبرها البعض نماذج محتملة لاستراتيجيات مشابهة للراية الخادعة. لتعرف  إذا كانت الحادثة راية خادعة أم لا عليك أن تأخذ في عين الاعتبار 

· التوقيت: هل جاء الحدث في لحظة سياسية بالغة الحساسية لخدمة أجندة معينة؟

· الاستجابة: هل كانت الإجراءات اللاحقة مُعدة مسبقًا وكأنها تنتظر فقط ذريعة للانطلاق؟

· الغموض: هل بقيت تفاصيل الحادثة غامضة ولم يتم التوصل إلى نتائج تحقيقية شفافة ونهائية؟

أسلوب “الراية الخادعة” هو الذروة في التلاعب بالوعي والواقع. إنه لا يكتفي بإيذاء الخصم، بل يجعله يدفع ثمن جريمة لم يرتكبها، ويحول ضحايا العملية إلى أدوات في يد من خطط لهم. في عصر المعلومات العميقة (Deepfakes) والحرب الإلكترونية، أصبح تنفيذ عمليات “راية خادعة” أكثر سهولة من أي وقت مضى، مما يجعل مهمة الصحفي والمحقق  وحتى المواطن في كشف الحقيقة أهم وأصعب من أي وقت مضى. الفهم التاريخي لهذه العمليات هو الدرع الأول ضد التلاعب بالعواطف وصنع الذرائع للحروب.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى