تقاريرسلايدرمقابلات

قوارب أبيدوس.. أسطول ملكي مدفون في صحراء سوهاج

إعداد: بسنت عماد

ما زالت الحضارة المصرية القديمة تفاجئ العالم كلما كشفت الرمال عن سر جديد أو كنز مطمور يعيد رسم ملامح التاريخ، ويؤكد عبقرية الإنسان المصري الذي سبق عصره بقرون.

ومن بين أكثر الاكتشافات إدهاشًا في العقود الأخيرة، العثور على أسطول كامل من القوارب الملكية مدفون في عمق صحراء سوهاج، على بُعد نحو ثمانية أميال من مجرى النيل غرب مدينة البلينا، في منطقة لم يمر بها النهر يومًا.

يأتي هذا الكشف ضمن سلسلة “الأهرامات لم تكن الاستثناء الوحيد”، التي تسلط الضوء على إنجازات المصريين القدماء التي تجاوزت حدود البناء الحجري إلى علوم أخرى كالملاحة والفلك والهندسة والطب.

أقدم أسطول خشبي في التاريخ

القوارب المكتشفة، والتي عُرفت لاحقًا باسم “قوارب أبيدوس”، وُجدت مدفونة داخل 14 مقبرة طينية، ويعود تاريخها إلى ما قبل عصر الأسرات، أي منذ أكثر من خمسة آلاف عام، لتصبح بذلك أقدم مراكب خشبية عُثر عليها في تاريخ البشرية.

ميناء مدفون في قلب الصحراء

في عام 2000، أعلنت بعثة أثرية مشتركة من جامعات أميركية كبرى، من بينها بنسلفانيا وييل ونيويورك، عن هذا الاكتشاف المذهل في منطقة “شونة الزبيب” قرب مقابر أبيدوس الملكية، العاصمة الأولى لمصر القديمة.

وأكد الباحثون أن هذه القوارب لم تكن مجرد نماذج رمزية أو هياكل من القصب كما افترض البعض سابقًا، بل سفن حقيقية صُممت للتجديف، يتراوح طولها بين 18 و24 مترًا، وعرضها من مترين إلى ثلاثة أمتار، بعمق لا يتجاوز 60 سنتيمترًا.

ويمكن لكل مركب أن يستوعب نحو 30 مجدافًا، كما ظهرت آثار طلاء أصفر على بعض أجزائها، ما يدل على اهتمام المصريين الأوائل بالجوانب الجمالية في صناعتهم.

أقدم من قوارب خوفو بثلاثة قرون

ارتبط موقع “شونة الزبيب” بالملك خع سخم وي من الأسرة الثانية (2700 ق.م)، الأمر الذي دفع العلماء في البداية للاعتقاد بأن القوارب تعود إليه.

لكن الأبحاث اللاحقة أثبتت أنها أقدم من عصره بقرون، وأنها على الأرجح تخص أحد حكام السلالات الأولى نحو عام 2920 ق.م، لتكون وسيلته الرمزية للإبحار نحو العالم الآخر.

تكمن أهمية هذا الكشف في أن قوارب أبيدوس سبقت قوارب الشمس الخاصة بالملك خوفو بجوار هرمه الأكبر في الجيزة بما يقرب من ثلاثة قرون، وهو ما يمنحها لقب “أقدم المراكب الخشبية المكتشفة في العالم”.

لماذا دُفنت هذه القوارب؟

يرى الباحثون أن قوارب أبيدوس لم تُستخدم للنقل النهري أو الصيد اليومي، بل ارتبطت بالطقوس الدينية والفكر الجنائزي للمصري القديم.

فقد اعتقد أن القارب هو وسيلة العبور إلى العالم الآخر، حيث يبحر الملك أو الحاكم في رحلته الأبدية بين ضفاف الحياة والموت.

كما رجح بعض الأثريين أن هذه المراكب ربما استُخدمت أيضًا في مواكب احتفالية أو طقوس ملكية خلال حياته، قبل أن تُدفن لاحقًا بجوار مقبرته لترافقه في الأبدية.

أسرار يكشفها الخشب

يقول ماثيو آدامز، مدير البعثة الأثرية، إن تحليل نوعية الأخشاب المستخدمة في بناء هذه القوارب قد يمد الباحثين بمؤشرات مهمة عن طرق التجارة وشبكات العلاقات الدولية في تلك الفترة المبكرة من تاريخ مصر.

أما عالم الآثار ديفيد أوكونور، رئيس فريق التنقيب عن “مراكب أبيدوس”، فيؤكد أن هذا الاكتشاف غيّر بشكل جذري الفهم الأكاديمي لما قبل عصر خوفو، إذ أثبت أن المصريين امتلكوا ثروة وبراعة تكنولوجية في بناء السفن قبل تشييد الأهرامات بقرون، وهو ما لم يكن مثبتًا بأدلة واضحة من قبل.

براعة المصري القديم

أثبتت قوارب أبيدوس أن المصري القديم لم يكن مجرد باني أهرامات أو صانع معابد ضخمة، بل كان أيضًا رائدًا في فنون الملاحة والهندسة البحرية.

فقد صمم سفنًا متطورة صالحة للإبحار، وأدرك أن رحلته في الدنيا امتداد لرحلته في العالم الآخر، فدفن القوارب لترافقه في حياة أبدية.

دعوة لإعادة الاكتشاف

يضيف هذا الاكتشاف فصلًا جديدًا إلى قصة حضارة ما زالت تبهر العالم حتى اليوم، مؤكدة أن مصر القديمة لم تترك آثارًا معمارية فحسب، بل خلفت أيضًا أسرارًا بحرية تكشف عن تقدمها التكنولوجي والفكري منذ فجر التاريخ.

إنها رسالة واضحة من قدماء المصريين تقول للعالم: ما زال في مصر ما يستحق أن يُكتشف ويُروى.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى