محمد فؤاد البري يكتب: أوهام القمة والقاع

اخترقت حديقة الأورمان مشياً على الأقدام قادماُ من الدقي، حتى ظهرت قبة جامعة القاهرة شامخة، ومن البوابة الرئيسية يقع مبني كلية الآداب في مقدمة الجامعة على اليمين ومبني كلية الحقوق على اليسار، ووفقاً لمعايير مكتب التنسيق ومفاهيم العصر ونظرة المجتمع فأنني أقف أمام كليات تصنف أنها من القاع!
ولكن إن كان هنا القاع، فأين القمة؟
إذا قمنا بعملية إحصاء لتاريخ الخريجيين المؤثرين في المائة عام الأخيرة باعتبار أن تاريخ المبنيين من تاريخ تأسيس جامعة القاهرة سنة 1925بمقرها الحالي ، سنجد بلا شك أن عدد كبير من الشخصيات العامة ومن شكلوا الوعي المصري سياسياً وثقافياً وفنياً هم في الأصل خريجين من الحقوق والآداب ، والذين تقلدوا أرفع المناصب ليس في مصر فقط بل في الوطن العربي ومنهم أمناء عموم جامعة الدول العربية على مر تاريخها ، ورؤساء دول عربية ، وسفراء دول بل منهم من وصل للعالمية سواء من نال نوبل للسلام أو الآداب أو تقلد مناصب دولية في الأمم المتحدة أو اليونسكو ومن تلك الكليات أيضاً تخرج مبدعين كتبوا وصاغوا أبرز الأعمال الدرامية والمشاهد السينمائية التي ستظل راسخة في ذاكرة ووجدان الشعوب العربية – جميعهم مروا من هنا – من تلك الكليات التي نصفها اليوم بالقاع ؟! ولا داعي أن نذكر أسماء لأن القائمة طويلة جداً ولا يسعها مقال..
من هذه المقدمة نستنج أن الكليات التي تقبل من تنسيق منخفض والتي أطلق عليها ” كليات القاع” في نظر المجتمع الحالي هي من أفرزت معظم الشخصيات العامة وعظماء مصر خلال القرن الأخير، وينطبق الأمر على كليات التجارة والزراعة والشرطة والحربية ومعاهد الفنون المسرحية وغيرها من مؤسسات تعليمية تقبل بمعدلات منخفضة مقارنة بالكليات الطبية والهندسية فهل هي مسألة درجات أم ميول ورغبات؟؟
ويبقى السؤال لماذا تضاءل انتاج تلك الكليات ولا سيما الحقوق والآداب في انتاج العظماء والمبدعين كما كان في الماضي؟
ما أود أن أقوله عندما كانت كلية الآداب والحقوق تختصر على ثلاث جامعات فقط (القاهرة، عين شمس، الإسكندرية) حتى ستينيات القرن الماضي كانت أفضل وأكثر غزارة في انتاج المبدعين ولكن بعد التوسع في انشاء الجامعات الإقليمية أصبح الاهتمام بالكم بدلاً من القيمة فضاعت المواهب الحقيقية بين زحام الخريجين وظهرت بطالة تلك الكليات وأصبح هناك أساتذة جامعات أقل موهبة من السابقين، وطلاب دون المستوى يدرسون في تخصصات رفيعة وكل هذا يعود لسببين هما التنسيق المنخفض للقبول والمجانية الغير مشروطة بتفوق.
ونتيجة للنظرية الكمية ظهر المصطلح البغيض ” كليات القمة والقاع ” من هنا تغيرت النظرة الكلية لمفهوم الجامعة وتحولت من التكامل بين فروع المعرفة إلى الطبقية بين التخصصات طبقية تحد من التحاور المثمر والتلاقي الخلاق بين النظم العلمية المختلفة، طبيعية كانت أم إنسانية، هذا التحاور وهذا التلاقي اللذان يشكلان سوياً عماد التقدم المعاصر الذي نشهده على كل من صعيدي الفكر والتكنولوجيا..
وهكذا يتمزق النسيج الفكري والثقافي المصري إلى أجزاء متفرقة لا تربط بينها الا خيوط واهية، لنبقي أسرى لحالة استهلاك المعرفة ونتباعد عن حالة انتاجها، وتهدر طاقة الابداع فينا.. فهل لنا أن نعيد النظر؟
” ظاهرة كليات القمة ” هي حقيقة قائمة في ثقافة الجامعات المصرية، حيث تستأثر حفنة معدودة من الكليات بغالبية العناصر المتفوقة من شبابنا، ولتحرم منها بقية الكليات بتخصصاتها المتعددة. هذا بغض النظر مؤقتاً عن المعايير المستخدمة في قياس هذا التفوق وفي مدى صلاحيتها لهذا القياس.. كليات القمة بحكم طبيعة تخصصاتها لا تعني بإنتاج المعرفة الأساسية بفدر ما تؤدي إلى احداث خلل نفسي بين طلاب الجامعة ونظرتهم لتخصصهم.
قاعدة بديهية أن يكون هناك تفاوت نسبي بين الطلاب من خلال هذا التفاوت يتوزعون إلى تخصصات الجامعة المختلفة لكن من الواجب ايضاً أن يكون هذا التفاوت ضئيل وليس بهذه الفجوة الكبيرة الذي نتج عنها طبقية في التخصصات وكليات شعبية وأخرى راقية وكليات للمتفوقين وأخرى للمتخلفين، فالطالب الجامعي في أي تخصص يجب أن تسمح قدراته العقلية والذهنية للدراسة في الجامعة سواء في تخصصات العلوم الانسانية أو التطبيقية.
ويتوزع سنويا طلاب الشعبة الأدبية وما يقرب من نصف عدد طلاب الشعبة العلمية (علوم / رياضة) على الكليات النظرية بلا قيود، وفي علم الاقتصاد شيء اسمه ” الندرة ” تتحدد خلاله قيمة الأشياء وما جعل خريجو التخصصات الإنسانية أو الاجتماعية أقل ثقة وأكثر بطالة مقارنة من أقرانهم بالتخصصات العلمية الأخرى هو الكم، فالعدد الكبير من الطلاب في تلك التخصصات الرفيعة من فلسفة وقانون ودراما ونقد و أدب وعلم نفس واقتصاد وعلم اجتماع وتاريخ وأصول دين الخ والمسؤولة عن صناعة القوي الناعمة في المجتمع أضر ضرراً بالغاَ بالمنظومة الثقافية فتلك التخصصات لا تتطلب الا عينات محددة من الطلاب المبدعين الراغبين لدراسة تلك المعرفة ولكن لم يحدث ذلك .
ومن أراء الفقهاء : إبراهيم شحاته ( مستشار البنك الدولي في واشنطن 1983-1998) وكان واحداً من أعظم فقهاء القانون الدولي في القرن العشرين كان يرى أن مجانية التعليم يجب ان تقتصر علي المتفوقين وتكليف غير المتفوقين بتحمل نفقات تعليمهم ومن الدراسات الأصولية في هذا المجال دراسة لويس عوض “الجامعة والمجتمع الجديد” حيث أكد أن التعليم من أجل الوظيفة وليس العلم يحول الإنسان إلى ترس في آلة والاهتمام بالكليات العلمية على حساب الكليات الإنسانية جعل الأخيرة مليئة بالمتخلفين مشيرًا إلى أنه من المنطقي أن تكون الفئة الأكبر من الناس من طبقة الفنيين ، وفي نفس الوقت يجب ان تكون عدد طلاب العلوم الإنسانية اقل من العلمية باعتبار ان تلك العلوم يجب ان يقودها عدد من المبدعين وأن هنالك الكثير يدرس العلوم الإنسانية النظرية بدون أدنى حب، فيضحى متخلفًا فيها، وكل ذلك بسبب «التنسيق»، الذى يقترح الكاتب إلغاءه تمامًا.
فهل نستبدل نظاماً جديداً من شأنه اذابة الفوارق الطبقية بين التخصصات وخلق طالب جامعي متكامل الرؤية في عصر معقد تتداخل فيه العلوم الطبيعية مع الإنسانية وننهي مشكلة القمة والقاع للأبد وهو أن يتخصص كل طالب جامعي في تخصصين أحدهما عملي والآخر نظري بشرط أن يكون له علاقة بتخصصه الرئيسي أي تطبيق مبدأ، ثنائية التخصصات.. تطبيق هذا المبدأ في الجامعات المصرية سيحل أكثر من مشكلة في آن واحد. مشكلة الكليات الشعبية، أزمة البطالة، أزمة الفكر المعاصر، أزمة ضعف ثقافة الطالب الجامعي، اذابة الفوارق بين العلوم.. إعادة قيمة الفلسفة كمنهج علمي لدراسة العلوم الطبيعية فعلي سبيل المثال هناك علاقة قوية بين الطب والفلسفة إذ هما علمان متممان أحدهما للآخر إذ أن الأول علم الجسم والثاني علم العقل الإنساني.. بل أن المثل الأعلى في توحيدهما لأن معرفة الجسم وسلوكه وحالته لا تتم إلا بمعرفة العقل وكثيراً من الفلاسفة كانوا أطباء.
في النهاية لا يوجد علم أفضل من علم أو تخصص أرقي من تخصص، ولكن يوجد نوعية من الطلاب ترتقي بعلم ونوعية أخرى تسقط به إلى الهاوية وهذا ما نريد معالجته..