
إعداد: رحمه حمدى
تشهد فنزويلا واحدة من أكثر الأزمات تعقيداً في العصر الحديث، حيث تتداخل فيها الأبعاد السياسية والاقتصادية والجيوسياسية. في جوهرها، تكمن الأزمة في صراع على الشرعية بين قوتين:
من جهة، يقف نيكولاس مادورو، الرئيس الحالي الذي تتهمه المعارضة وأطراف دولية بإجراء انتخابات مزورة وقمع الحريات، مدعوماً من قبل حلفاء استراتيجيين مثل روسيا والصين.
ومن جهة أخرى، تقف المعارضة بقيادة خوان جوايدو، الذي نصب نفسه رئيساً مؤقتاً للبلاد في عام 2019 بدعم من الولايات المتحدة والعشرات من الدول، التي تعتبر نظام مادورو غير شرعي.
تدخلت الولايات المتحدة كطرف رئيسي في هذا الصراع، حيث فرضت عقوبات اقتصادية خانقة على حكومة مادورو، وصنفته مؤخراً هو وجماعته بـ “الإرهابية”، كما أقدمت على تحركات عسكرية مؤخراً لزيادة الضغط، ما يهدد بتحويل الأزمة الداخلية إلى مواجهة إقليمية أو دولية مفتوحة.
السبب المعلن من الجهة الأمريكية هو مكافحة عصابات المخدرات وتهريبها حيث تم نشر حاملة الطائرات “جيرالد فورد” (الأكبر في العالم) وقطع بحرية أخرى، ونحو 15 ألف جندي في منطقة الكاريبي. تنفيذ غارات جوية على قوارب مشتبه بها. وتم إطلاق “حشد هائل” للقوات والأسلحة والمعدات العسكرية، والاستعداد لمواجهة أي هجوم محتمل.
أمر ترامب، بزيادة الخيارات العسكرية بما في ذلك ضربات داخل الأراضي الفنزويلية. ومنح وكالة الاستخبارات المركزية (CIA) صلاحية القيام بعمليات سرية داخل فنزويلا . ولكن تمتلك فنزويلا واحدة من أكثر أنظمة الدفاع الجوي كثافة في نصف الكرة الأرضية، بدعم من أنظمة “إس-300” وطائرات “سوخوي” المقاتلة، مما قد يجعل أي عملية عسكرية أمريكية مكلفة.
بينما ترى فنزويلا أنها حرب مفبركة وتهديد بهدف الإطاحة بالرئيس مادورو، وأن الأهداف العميقة تتمثل في تغيير النظام في فنزويلا، والاستفادة من احتياطياتها النفطية الهائلة (الأكبر في العالم)، ومواجهة نفوذ المنافسين الاستراتيجيين مثل روسيا والحفاظ على النظام وردع أي مغامرة عسكرية أمريكية محتملة من خلال التحالف مع قوى دولية.
خلفية الأزمة والسياق الأوسع
يرى الخبراء العسكريين، أن التصعيد هو جزء من سياسة أمريكية قديمة تعود إلى “عقيدة مونرو” عام 1823، التي تعتبر أمريكا اللاتينية “الفناء الخلفي” للولايات المتحدة منذ القرن 19، أي تحرك نحو الاستقلال أو معاداة الهيمنة الأمريكية كان يُرى كتهديد. ظهور شافيز كقائد مناهض للولايات المتحدة ومتبني لـ “الاشتراكية البوليفارية” كان بمثابة كسر للقاعدة التاريخية، فأشعل العداء الهيكلي. وأرست مفهوم الهيمنة الأمريكية على نصف الكرة الغربي.
كما يشير الخبراء العسكريون إلى أن هذا الحشد العسكري الضخم لا يمثل سوى حوالي 10% من القوة البحرية الأمريكية، وأنه يهدف في الأساس إلى الضغط النفسي والمناورة السياسية لدفع النظام الفنزويلي إلى التفاوض أو زعزعة علاقته بالجيش، وليس بالضرورة للدخول في حرب شاملة.
بحسب تقارير “هيومن رايتس ووتش”، التي تخدم الرواية الأمريكية فإن فنزويلا تعاني من أزمة إنسانية وحقوقية عميقة. يعيش أكثر من 20 مليون فنزويلي في فقر متعدد الأبعاد، وفرّ حوالي 8 ملايين من البلاد منذ عام 2014. كما شهدت الانتخابات الرئاسية الأخيرة في يوليو 2024 اتهامات بالتزوير وقمعًا عنيفًا للمعارضة . هذه الأوضاع الداخلية تشكل خلفية أساسية للأزمة
السيناريوهات المتوقعة حسب تحليل الأحداث بالذكاء الاصطناعي
السيناريو الأول: تصعيد الضغط والحرب
هذا هو المسار الأكثر ترجيحاً، حيث تستمر واشنطن في زيادة الضغط لتحقيق أهدافها دون الدخول في حرب شاملة. سيتضمن:
· مزيد من العقوبات الاقتصادية القاسية: تجميد أي أصول لفنزويلا في الخارج، ومحاصرة تحويلاتها النفطية بشكل كامل، لخنق اقتصاد النظام.
· ملاحقة قانونية دولية: استخدام تصنيف “الإرهاب” لمقاضاة مسؤولي النظام في محاكم دولية بتهم تمويل الإرهاب، ومحاولة عزلهم دولياً.
· دعم متزايد للمعارضة: قد تصل إلى حد الاعتراف الرسمي بحكومة منفى أو تمويل عملياتها بشكل أكثر علنية.
· عمليات نفسية واستخباراتية مكثفة: لزعزعة استقرار النظام من الداخل، واستمالة قيادات الجيش عبر وعود برفع العقوبات عنهم شخصياً إذا تخلوا عن مادورو.
السيناريو الثاني: مواجهة عسكرية محدودة
تصنيف “الإرهاب” يسهل تبرير ضربات عسكرية “لمكافحة الإرهاب”. لا أتوقع غزواً برياً شاملاً (بسبب التكلفة البشريّة والسياسية الهائلة)، لكنني أتوقع:
· ضربات جوية جراحية: تستهدف منشآت عسكرية محددة، أو معسكرات ميليشيات موالية للنظام يتم اتهامها بأنها “إرهابية”.
· عمليات خاصة: شن غارات لاستهداف مسؤولين محددين في قوائم الإرهاب أو لتحرير سجناء أمريكيين.
· حصان بحري: لقطع إمدادات النفط والسلاح عن النظام، تحت ذريعة مكافحة تمويل الإرهاب.
السيناريو الثالث: الجمود والاستنزاف (احتمال منخفض)
في هذا السيناريو، تنجح فنزويلا (بدعم من حلفائها) في امتصاص الضغط، وتفشل محاولات زعزعة النظام من الداخل. النتيجة هي:
· استمرار الأزمة الإنسانية داخل فنزويلا.
· تحول البلاد إلى ساحة جديدة للصراع بين القوى العظمى (أمريكا ضد روسيا والصين) بشكل غير مباشر.
· استنزاف لموارد جميع الأطراف دون تحقيق نصر حاسم لأي منها.
العامل الحاسم الذي سيحدد المسار هو موقف الجيش الفنزويلي. إذا بدأ الضغط الأمريكي والداخلي يحدث شروخاً في ولاء القيادات العسكرية، قد ينقلب النظام بسرعة. أما إذا حافظ مادورو على تماسك الجيش، فسندخل في نفق طويل من الاستنزاف.
في كل الأحوال هناك تكلفة سياسية لأي تدخل عسكري أمريكي بري مباشر لأنه سيكون مكلفًا جدًا على الصعيدين السياسي والعسكري، وقد يعيد للأذهان التجارب الأمريكية الفاشلة في دول العالم خاصة اللاتينية والآسيوية.
ما يجري حالياً هو فصل جديد من سياسة “العصا القصيرة”، حيث تعتمد واشنطن على الإشارات العسكرية والضغوط الاستخباراتية لفرض وقائع سياسية جديدة دون الانزلاق إلى حرب شاملة. وتصنيف “الإرهاب” هو ذريعة وخطوة تكتيكية لرفع سقف المواجهة، وجعل الخيار العسكري أكثر قبولاً محلياً ودولياً. المشهد شديد التقلب، وأي شرارة صغيرة يمكن أن تطلق مواجهة يصعب احتواؤها.



