Jannah Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.
الأخبار

شحاته زكريا يكتب: قوة مصر الناعمة تعود.. ولكن بثوب جديد

في لحظات التغيير الكبرى التي تمر بها الأمم تظهر قوى خفية تُعيد تشكيل الوعي وتوجّه الوجدان وتمنح الشعوب مكانتها بين الدول وهذه القوى ليست جيوشا ولا اقتصادا فقط بل هي قوة ناعمة تصنع صورة الوطن في أعين الآخرين، وتترك أثرا لا يمحوه الزمن.

 ومصر بتاريخها وثقافتها وحضارتها كانت دائما صاحبة هذه القوة.. تلك القوة التي جعلتها حاضرة في قلب العالم مهما تغيرت ظروف السياسة وتقلبت موازين القوة. واليوم وبعد سنوات من التحولات العميقة تبدو قوة مصر الناعمة وكأنها تعود بثوب جديد ثوب أكثر حداثة، أكثر تنوعا، وأكثر قدرة على الوصول إلى القلوب والعقول.

لسنوات طويلة ارتبطت قوة مصر الناعمة بأركان ثابتة: الفن والدراما، والسينما، والكتاب، والأزهر، والإعلام، والآثار، وتعليم الأجيال العربية. كان صوت مصر يصل قبل سفاراتها وكانت ملامحها جزءا من ذاكرة الشعوب. ومع تغيرات الزمن وتطور التكنولوجيا وظهور منصات عالمية باتت تُنافس الدول في التأثير تراجعت هذه القوة بعض الشيء أو بالأحرى تغير شكلها. لكن مصر برغم كل ذلك لم تفقد قدرتها على التأثير بل أعادت صياغتها في شكل جديد يناسب الواقع وكأنها تقرأ الزمن وتعيد تشكيل صورتها بما يلائم العصر.

لقد أصبح التأثير اليوم لا يُقاس بما يُعرض فقط على شاشات التلفزيون بل بما يصل إلى الهواتف وما يُشاهَد على المنصات الرقمية وما ينتشر على مواقع التواصل وما يُقدَّم عبر المبادرات الثقافية والفنية التي تُعيد الجمهور إلى حالة الانتماء. وفي هذا المشهد الجديد استطاعت مصر خلال السنوات الأخيرة أن تعيد بريقها بأساليب أقرب للجيل الجديد فبدلا من الاعتماد على الكلاسيكيات وحدها، بدأت تقدم محتوى عصريا ضخم الإنتاج، عالي القيمة، يُعالج قضايا الأمة ويُعيد رسم صورة الشخصية المصرية في ذهنية العرب والعالم.

وهنا لا يمكن تجاهل الدور الكبير الذي لعبته الدولة في إعادة بناء الصناعة الثقافية والإعلامية. فالمسألة لم تعد مجرد أعمال فنية تُنتج بشكل متفرق بل أصبحت هناك رؤية واضحة تهدف إلى إعادة تشكيل الوعي الوطني وإحياء الرموز التاريخية وتقديم الدراما الراقية التي تُنافس وتُجدد وتخاطب العقول لا الغرائز. والأمثلة كثيرة على ذلك؛ فقد عادت الدراما الوطنية لتتربع على عرش المشاهدة في مصر والعالم العربي عبر أعمال ضخمة سلطت الضوء على بطولات الجيش والشرطة وعلى قصص حقيقية صنعت مجد الوطن. وعادت الأعمال الاجتماعية القوية التي تعالج مشكلات الأسرة والشارع، بما يجعل المشاهد يشعر أن ما يراه ليس مجرد قصة، بل انعكاس لواقعه.

وفي الوقت نفسه، ظهرت أعمال توثق التاريخ المصري من جديد، وتعيد تقديمه للأجيال الشابة بطريقة سلسة ومؤثرة، فتجعلهم يشعرون أنهم جزء من حضارة لا تُقاس بالسنوات بل بالأعماق. وهذه نقطة فارقة في مسار القوة الناعمة؛ لأن مصر التي تمتلك تاريخًا يزيد على سبعة آلاف عام كانت بحاجة إلى طريقة حديثة تروي هذا التاريخ بلغة العصر وهو ما بدأ يحدث بالفعل من خلال مسلسلات ووثائقيات وفعاليات ثقافية ذات رؤية واضحة وعميقة.

إلى جانب الفن والدراما ارتفعت قيمة المبادرات الثقافية وبدأت الدولة تعيد الاعتبار لدور القراءة ودور السلام الاجتماعي ودور القوة الفكرية التي تحارب التطرف بتحصين الوعي لا بالصوت العالي. وعاد الأزهر الشريف بمؤسساته ومنهجه الوسطي ليكون رمانة الميزان في خطاب ديني هادئ ، يحترم العقل ويرفض الغلو ويُعيد للعالم صورة الإسلام الصحيح الذي كان دائمًا جزءًا من قوة مصر الناعمة.

ثم جاءت السياحة الثقافية والدينية والأثرية لتأخذ مكانها في هذا الثوب الجديد. فأصبحت مصر تُقدم تراثها للعالم بأسلوب أكثر حداثة عبر افتتاح المتاحف الجديدة وترميم الآثار، وتنظيم عروض واحتفالات مهيبة تُعيد للعالم شعور الدهشة الذي عرفه عندما اكتُشفت مقبرة توت عنخ آمون. وقد شاهد العالم تلك اللحظات التي بدت وكأنها رسائل قوية تقول: “مصر هنا… ومصر تعود… ومصر تملك ما لا يملكه أحد”. وهكذا أصبحت القوة الناعمة ليست مجرد صورة ذهنية، بل تجربة حية يراها الزائر ويلمسها.

ولا يمكن أن نغفل في هذا السياق دور الرياضة خاصة كرة القدم التي تحولت إلى وسيلة تأثير كبرى. فحين يرفع لاعب مصري اسم بلده على المنصات العالمية، فهو يقدم نموذجا جديدا للقوة الناعمة نموذجا مبنيًا على الشخصية والموهبة والانضباط والأخلاق. وهذا ما رأيناه في تجارب كثيرة جعلت اسم مصر يتردد في الملاعب والبطولات وجعل الجمهور العالمي ينظر إلى المصريين بصورة مختلفة.

لقد تغير العالم وتغيرت أدوات التأثير لكن مصر استطاعت أن تفهم هذه المعادلة وأن تستعيد حضورها عبر محتوى قوي،ط ورؤية واضحة وتخطيط مدروس. لم تعد القوة الناعمة مجرد أغنية أو فيلم، بل أصبحت صناعة كاملة تحمل مشروعا وهدفا ورسالة. أصبحت قوة تلامس الوعي وتبني الهوية وتعيد تشكيل صورة الدولة في الداخل والخارج.

المثير في الأمر أن هذه العودة ليست تقليدا للماضي بل تطوير له. فالثوب الجديد للقوة الناعمة المصرية لا يلغي القديم بل يبني عليه ويعيد تقديمه بلغة يفهمها الجيل الذي يعيش بين سرعة التكنولوجيا وتغير العالم. وقد نجحت مصر في ذلك لأنها تمتلك أصل الحكاية، وتمتلك تاريخا لا يُشترى وتمتلك شعبا لديه قدرة استثنائية على الإبداع مهما تغيرت الظروف.

وإذا كانت الدول اليوم تخوض سباق النفوذ عبر الإعلام والثقافة والفنون والرياضة، فإن مصر تعود إلى هذا السباق بثقة مختلفة، ثقة نابعة من أنها لا تصنع قوة ناعمة مستعارة، بل قوة تنبع من جذورها الحضارية وتاريخها وروحها الإنسانية. وإذا حافظت مصر على هذا المسار، وواصلت تطوير محتواها، وتقديم فن راقٍ، ودراما واعية، ومبادرات ثقافية مؤثرة، فإنها ستستعيد مكانتها الطبيعية كقلب الثقافة العربية وروحها.

إن قوة مصر الناعمة تعود بالفعل لكنها تعود بثوب جديد… ثوب يناسب العصر ويليق بتاريخ الوطن ثوب لا يعتمد على النوستالجيا فقط بل على الرؤية وعلى الإبداع وعلى الإيمان بأن الأمة التي علّمت العالم يوما كيف يصنع حضارة قادرة اليوم أيضا على أن تُعيد تشكيل وعيه من جديد.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى