أخبار حكوميةسلايدرمقالات

شحاتة زكريا يكتب: حين يصمت الضمير العالمي.. من يكتب الحقيقة عن غزة؟

في كل مرة يشتعل فيها فتيل الحرب في غزة ، يُعاد المشهد ذاته: قنابل تتساقط على بيوت المدنيين أطفال تُنتشل من تحت الركام شوارع تتحول إلى أطلال وأصوات الأمهات تعلو على ضجيج المدافع. ورغم أن الصورة أوضح من أن تُنكر إلا أن الضمير العالمي يواصل صمته المطبق كأنه شريك غير معلن في الجريمة ، أو شاهد زور يختار أن يدير وجهه بعيدا عن الحقيقة.

لكن السؤال الذي يفرض نفسه: حين يصمت الضمير العالمي من يكتب الحقيقة؟ ومن يُعيد رسم ملامح العدل في زمن غابت فيه العدالة؟

منذ عقود طويلة تعوّد العالم أن يتحدث عن حقوق الإنسان باعتبارها قيمة كونية تُطبَّق بلا تمييز ، وتُحترم بلا استثناء. غير أن المأساة الفلسطينية تكشف زيف هذا الخطاب؛ إذ تتحول القيم إلى أوراق تفاوض ، والمعايير إلى سلع تباع وتشترى والإنسان الفلسطيني إلى رقم في بيانات الأمم المتحدة. أما صوت الضحايا فلا يتجاوز جدران المخيمات ولا أسوار الحصار.

في غزة ليست القضية مجرد صراع عسكري بين طرفين كما يُصوَّر في بعض وسائل الإعلام الغربية، بل هي معركة بقاء لشعب أعزل يواجه واحدة من أقوى الآلات العسكرية في العالم. ورغم ذلك يُطلب من الفلسطيني أن يكون “مثاليا” حتى في دفاعه عن نفسه بينما يُمنح الاحتلال كل الذرائع ليواصل قتله وتشريده تحت غطاء “حق الدفاع عن النفس”.

الضمير العالمي لم يصمت وحده بل إن كثيرا من النخب السياسية والفكرية في الغرب انخرطت في صناعة رواية مقلوبة تُصوّر الجلاد ضحية وتُحمل الضحية وزر الجرائم الواقعة عليه. هذه المفارقة ليست مجرد خلل أخلاقي بل هي نتاج منظومة كاملة من الإعلام الموجَّه والضغط السياسي والمصالح الاقتصادية التي تُفضِّل استمرار الدماء على أن تُخسر صفقة سلاح أو يُلغى عقد استثمار.

ومع ذلك فإن الحقيقة تظل أقوى من كل محاولات الطمس. الحقيقة يكتبها الدم النازف من جسد طفل لم يتجاوز عمره أعواما وترويها صرخات أُمّ تودّع أبناءها واحدًا تلو الآخر. يكتبها المقاوم الذي يقف بوجه الاحتلال بوسائل متواضعة لكنه يملك من الإرادة ما لا تملكه جيوش الجرّافات والطائرات.

لقد أثبتت غزة أن الرواية الفلسطينية لا تحتاج إلى وسيط فالهاتف المحمول الذي يوثق مشاهد القصف والكاميرا البسيطة التي تنقل صور الدمار أصبحت أقوى من كل ماكينات الإعلام الموجهة. ومن بين الركام خرجت قصص تهز الضمير الإنساني: طفل يبحث عن حقيبته المدرسية بين الأنقاض طبيب يواصل عمله في مستشفى بلا كهرباء صحفي يكتب آخر تقرير له قبل أن يُستشهد مع عائلته. هذه المشاهد وحدها كفيلة بفضح زيف الروايات المصطنعة وكسر جدار الصمت العالمي.

حين يصمت الضمير العالمي لا يبقى سوى الضمير الشعبي. الشعوب الحرة من سيدني إلى لندن ومن نيويورك إلى كيب تاون خرجت بمئات الآلاف لتقول “كفى”. هذه التظاهرات لم تُوقف الحرب بعد لكنها أعادت الأمل بأن ثمة وعيا عالميا يتشكل بعيدا عن حسابات الحكومات ومصالح الشركات. وهو وعي يُدرك أن القضية الفلسطينية ليست شأنا محليًا أو نزاعا حدوديا بل هي امتحان حقيقي لقيمة العدالة في هذا العصر.

إن أخطر ما يواجه القضية الفلسطينية ليس فقط قنابل الاحتلال بل أيضا محاولات “قتل الرواية”. فحين يُختزل المشهد في أرقام باردة عن قتلى وجرحى ، يغيب الوجه الإنساني للصراع. وحين يُصور الفلسطيني على أنه طرف مكافئ لدولة محتلة مدججة بالسلاح تضيع الحقيقة. لذلك فإن معركة الكلمة لا تقل أهمية عن معركة السلاح.

اليوم تقع المسؤولية على الكُتّاب والإعلاميين وأصحاب الضمائر الحية في كل مكان. فالحقيقة ليست ملكا لأحد لكنها أمانة في أعناق الجميع. ومن يملك القدرة على الكتابة أو التوثيق أو الشهادة لا يجوز له أن يصمت؛ لأن الصمت في مثل هذه اللحظة ليس حيادا بل خيانة.

في غزة يُولد كل يوم شهيد جديد، لكن تُولد أيضا حكاية جديدة تُضاف إلى سجل المقاومة والصمود. هذه الحكايات هي التي ستبقى في ذاكرة الأجيال بينما سيسقط كل صمت متواطئ وكل خطاب مزيف. فالتاريخ لا يرحم والضمير الإنساني قد ينام طويلا لكنه لا يموت أبدا.

وحين يصمت الضمير العالمي فإن غزة نفسها تكتب الحقيقة بدمائها وتضحياتها وصمودها. والحقائق التي تُكتب بالدم لا تحتاج إلى اعتراف لأنها وحدها التي تصمد في وجه النسيان وتبقى لتشهد على أن شعبا لم ينكسر مهما تكالبت عليه قوى العالم.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى