Jannah Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.
سلايدرمقالات

شحاتة زكريا يكتب: حرب العقول لا تتوقف.. وصانع المحتوى أصبح أخطر من السياسي

لم تعد المعارك تُدار على الخرائط ولا تُحسم داخل غرف العمليات وحدها المعركة الحقيقية الآن تُدار فى العقول على شاشات بحجم كف اليد وبأسلحة ليست صواريخ ولا دبابات بل كلمات وصور ومقاطع قصيرة يمكنها أن تربك مجتمعا بأكمله أو ترفع وعيه درجات. فى زمن المنصات المفتوحة أصبح صانع المحتوى—بكل تنوعه—أخطر من سياسى يتحدث فى مؤتمر وأقوى تأثيرا من خطيب يقف على منبر. فالكلمة اليوم لا تمر عبر بوابة الإعلام الرسمى فقط بل تتسلل إلى الهاتف قبل أن تمر على العقل وتشكل المواقف قبل أن يكتمل الفهم.

هذه ليست مبالغة بل واقع يمكن قياسه. كثير من الدول اكتشفت أن المعركة لم تعد بين جيوش بل بين روايات. وأن من يتحكم فى الصورة والإحساس والانطباع ينتصر حتى وإن خسر جزءا من المعركة الميدانية. وفى المقابل من يترك مساحات الوعى بلا حماية يُهزم حتى لو كان يمتلك أقوى المؤسسات. لذلك لم يعد السؤال: ماذا قال السياسي؟ بل: كيف وصل هذا الكلام للناس؟ ومن الذى أعاد صياغته؟ ومن الذى حوله إلى تريند؟.

لقد تغيرت صناعة الرأى العام بشكل جذرى. صانع المحتوى اليوم ليس مجرد شخص يصور نفسه أو يكتب منشورا عابرا؛ هو صانع اتجاه مهندس إدراك وأحيانا مقاتل فى معركة لا يرى أغلب الناس أنها معركة أصلا. لديه أدوات نافذة وجمهور ضخم وسرعة انتشار لا تترك وقتا للتفكير. والسياسى الذى كان يحتاج إلى قناة فضائية أو مؤتمر صحفى ليُسمع صوته أصبح ينافسه شاب فى غرفة صغيرة يحمل هاتفا واحدا قد تصل كلماته خلال دقائق إلى ملايين.

هنا تكمن خطورة اللحظة:

صانع المحتوى يمكن أن يبنى وعيا ويمكن أن يهدمه. يمكن أن يُهدئ مجتمعا ويمكن أن يشعله. يمكن أن يفتح نافذة أمل ويمكن أن يصنع حالة هلع. كل هذا دون أن يحمل منصبا أو يتولى مسؤولية ودون أن يخضع لقواعد أو يلتزم بضوابط. ولذلك أصبحت الدول كلها تعيد التفكير فى معادلة الوعى لأن تركها للمصادفة لم يعد خيارا.

فى مصر تختلف الصورة قليلا. فالمجتمع لديه تاريخ طويل من الفرز والقدرة على التمييز لكنه يواجه تحديا جديدا: كثافة المحتوى وتشابك الرسائل وتعدد المنابر. المواطن الطيب الذى كان يستقبل الخبر من التلفزيون أو الجريدة أصبح يستقبل ألف رواية فى الدقيقة وكل رواية تدّعى أنها الحقيقة. وهنا يصبح العقل نفسه ساحة معركة والسؤال: من يسبق إلى هذا العقل؟ ومن يُفسّر الحدث قبل الآخر؟

ولأن الوعى لا يتحمل الفراغ فإن غيابه يملؤه الآخرون فورا. حين تتأخر المعلومة الصحيحة تحتل مكانها الشائعة. وحين يغيب الخطاب الرصين يحضر خطاب التهييج. وحين يتراجع صوت التحليل العميق يعلو صوت الفبركة. وهنا يصبح دور صانع المحتوى الوطنى مسؤولية حقيقية لا ترفا. فالحرب الآن ليست على الأرض بل على المعنى. ليست على الجغرافيا بل على الإدراك. ليست على الدولة بل على صورة الدولة فى عقل المواطن.

ومع ذلك لا يمكن ترك الساحة بلا قواعد. فصانع المحتوى الذى يمتلك قوة التأثير يحتاج أيضا إلى مسؤولية موازية. يصبح عليه أن يدرك أن كلمته ليست مجرد محتوى بل قد تكون شرارة أو علاجا. وأن رسالته قد تحمي مجتمعا من الانقسام أو تدفعه إلى متاهة. وأن الوعى الذى يُصنع على المنصات يمكن أن يكون جسرا نحو الاستقرار أو ثغرة تستغلها قوى تبحث عن تفكيك الدول.

الدول الذكية اليوم بدأت تفهم المعادلة الجديدة. لم تعد تُطارد الشائعات فقط ولا تحاول السيطرة على كل منصة. بل بدأت تستثمر فى الوعى ذاته: خلق محتوى رصين دعم صناع المحتوى الحقيقيين فتح مساحات للحوار وتطوير خطاب يسبق الشائعة ولا يلحق بها. فالفكرة ليست أن تمنع المعلومة بل أن تقدّم الحقيقة بشكل أسرع وأوضح وأقوى.

وهنا تتجلى أهمية صانع المحتوى المنتِج للوعى لا المستهلك للفوضى. الذى يفهم أنه ليس مجرد ناقل أخبار بل صانع اتجاهات. الذى يدرك أن جمهور اليوم لا يُخدع بسهولة لكنه يتأثر بسرعة. وأن الذكاء ليس فى عدد المتابعين بل فى القدرة على تحويل هذا العدد إلى مساحة تفكير لا مساحة فوضى.

فى النهاية صانع المحتوى اليوم—شاء أم أبى—أكبر من دوره التقليدي. قد لا يحمل رتبة ولا منصبا لكنه يحمل قوة لا تُقاس. قوة تُحرك الرأى العام وتحدد اتجاه النقاش وتُعيد صياغة ما يراه الناس وما يفهمونه. قوة تجعل منه لاعبا أساسيا فى معركة الوعى التى لا تنام.

والدولة التى تفهم هذا الواقع لا تكتفى بالرد بل تصنع محتواها وتداول روايتها وتفتح الباب أمام صناع محتوى يعرفون قيمة البلد ويحترمون عقل الناس ويحمون الوعى قبل أن يتسلل إليه الضجيج. فالمستقبل لن تُديره القوة وحدها بل الأفكار. ولن تحميه الجيوش فقط بل المجتمعات الواعية.

وحرب العقول ستظل مفتوحة…

لكن انتصارها دائما لمن يملك القدرة على فهم الإنسان قبل الحدث وعلى حماية الوعى قبل الجغرافيا وعلى صناعة محتوى يرفع الناس لا يربكهم.

وهنا فقط… يفوز من يحارب بسلاح الحقيقة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى