مقالات

شحاتة زكريا يكتب: الطريق إلى السلام يبدأ من معركة العقول لا البنادق

منذ أن عرف الإنسان الصراع وهو يتوهم أن البندقية قادرة على أن تحسم التاريخ وأن صوت المدفع يمكن أن يفرض السلام. لكن الحقيقة التي يكشفها كل قرن من قرون التجربة البشرية أن البندقية لا تصنع سلاما بل تصنع هدنة هشة بينما السلام الحقيقي يولد في العقول قبل أن يُكتب على الورق. فالعقل هو الذي يقرر أن الحرب عبث وأن الكراهية سمٌّ بطيء وأن التعايش ضرورة وجودية أما البندقية فلا تملك سوى أن تؤجل انفجارا أو تفرض صمتا سرعان ما ينكسر.

إن السلام ليس مجرد توقيع على اتفاقية ولا هو صورة لزعماء يتبادلون الابتسامات أمام الكاميرات. السلام وعي راسخ يتجاوز اللحظة السياسية إلى عمق المجتمع والثقافة حالة من الإدراك الجمعي بأن الغد المشترك أجدر بالاستثمار من الدماء المهدورة. ولهذا فإن معركة العقول هي المعركة الحقيقية لأنها التي تصوغ هذا الوعي وتمنح المجتمعات مناعة ضد الانجرار إلى الحروب.

التجربة الإنسانية مليئة بالشواهد. الحرب العالمية الثانية لم تنتهِ بفضل القنابل وحدها بل انتهت حين اجتمع العقلاء ليؤسسوا نظامًا عالميا جديدا وحين أطلقت الولايات المتحدة مشروع مارشال لإعادة إعمار أوروبا في رسالة واضحة أن الاستثمار في السلام أجدى من الغرق في ثارات لا تنتهي. لقد كان السلاح أداة للإجبار لكنه لم يكن أداة للبناء. البناء جاء من الفكر من القرار بأن المصالح المشتركة أثمن من الأحقاد.

إن ما نعيشه في منطقتنا يكرر الدرس ذاته. كم من اتفاقيات أُبرمت ثم انهارت لأنها لم تجد سندا في عقول الناس. البنادق أجبرت الأطراف على الجلوس لكن غياب الثقة جعلها أوراقا بلا روح. لا يمكن لسلاح أن يزرع أملا في قلب طفل فقد أسرته ولا يمكن لمدفع أن يمحو ذكرى قصفٍ أو نزوح أو ظلم متراكم. وحده العقل المستنير قادر على تحويل هذه الجراح إلى دروس وعلى صناعة وعي جديد يرى في التعايش خلاصا وفي العدالة ضمانة وفي التنمية طريقا للكرامة.

السلام لا يقوم على الرصاص بل على التعليم الذي يفتح العقول وعلى الإعلام الذي يزرع الوعي وعلى العدالة التي تُشعر كل إنسان أن له مكانا في وطنه. حين يستثمر مجتمع في مدرسة فإنه يغلق ألف ثكنة عسكرية في المستقبل وحين يختار إعلامه أن يبني الجسور بدلا من التحريض فإنه يوفر أجيالا من العقول التي تؤمن بالحوار. إن الكلمة قد تجرح أكثر من الرصاصة لكنها أيضا قادرة على أن تداوي جرحا ظل مفتوحا لعقود.

وحين نتأمل في تاريخ مصر ندرك أن قوتها لم تكن يوما في سلاحها فقط رغم ما تملكه من جيش عظيم بل في قدرتها على أن تصوغ خطابا عقلانيا متوازنا يزاوج بين القوة والاعتدال بين الردع العسكري والانفتاح الدبلوماسي بين الصرامة في حماية الأمن والانفتاح في بناء التنمية. معركة مصر الكبرى لم تكن فقط مع السلاح بل مع الوعي مع الرواية مع القدرة على صياغة مشروع وطني يجد الناس أنفسهم فيه ويشعرهم أن سلام الداخل هو السند الأول لأي سلام خارجي.

إن العالم اليوم لا يعرف فقط حروبًا بالمدافع بل يعرف حروبا أشد خطرا: حروب العقول. من يمتلك السردية يفرض الواقع ومن يكتب الرواية يحدد كيف يُقرأ التاريخ. لهذا فإن أي سلام لا يسبقه انتصار في معركة العقول يظل مهددًا بالانهيار، لأن السلاح قد يسكت الأجساد لكنه لا يسكت الأفكار. وعندما تخسر العقول فإن أي بندقية تصبح بلا جدوى.

الطريق إلى السلام إذن يبدأ من إعادة بناء الثقة من نشر العدالة من تعليم الأجيال أن الحوار ليس ضعفًا بل قوة وأن التسامح ليس تنازلا بل حكمة، وأن احترام الآخر ليس انكسارا بل ارتقاء. السلام ليس ضعفًا في مواجهة القوي بل هو القوة الحقيقية التي تحمي الجميع من الانهيار. والمجتمع الذي يربح هذه المعركة يصبح محصنا ضد محاولات التخريب لأنه يمتلك الوعي الذي يرفض العودة إلى دوامة الدماء.

الخلاصة أن البنادق قد تفرض صمتا لكنها لا تستطيع أن تكتب المستقبل. العقول وحدها هي التي تفعل. ومن يراهن على السلاح وحده يشتري وقتا قصيرا ، بينما من يراهن على العقل يبني زمنا طويلا. السلام ليس معركة تُخاض في ساحة قتال بل هو معركة تُخاض في العقول والقلوب وإذا كسبناها فلن يعود للسلاح سوى مكانه الطبيعي: أداة ردع تحفظ الكرامة لا وسيلة لفرض الخراب.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى