
في حياة كل دولة لحظة فارقة تعيد تشكيل وعيها وتمنحها القدرة على النظر إلى المستقبل بثبات كأنما تخرج من عنق زجاجة التاريخ إلى اتساع الأفق. ولحسن الحظ تعيش مصر منذ أكثر من عقد تلك اللحظة التي تبلور فيها اليقين الوطني من جديد. ليس اليقين بمعناه الشعاراتي أو الانفعالي بل اليقين الذي يتحول إلى خطة وإلى إرادة وإلى قدرة على مواجهة ما اعتقد البعض أنه أكبر من طاقة الدولة أو من احتمالات الشعب. وهنا يظهر دور القيادة التي استطاعت أن تجعل من هذا اليقين مشروعا ومن المشروع دولة ومن الدولة مستقبلا يستحق أن نؤمن به.
منذ اللحظة الأولى أدرك الرئيس عبد الفتاح السيسي أن أخطر ما يهدد الدول ليس الفقر ولا الأزمات ولا الضغوط الخارجية بل غياب الثقة. فحين تتزعزع ثقة الشعوب في نفسها، ترتبك الدول وتتشقق المؤسسات ويتقدم صوت الفوضى على صوت البناء. ولذلك كانت الخطوة الأولى نحو استعادة الدولة المصرية هي إعادة غرس اليقين في وجدان المصريين. يقين بقدرتهم على العبور ويقين بأن ما فُقد يمكن استعادته وأن ما تهدم يمكن أن يُبنى أجمل وأقوى.
صناعة اليقين ليست ترفا فكريا وليست خطابا منمقا يُقال في لحظة حماس إنها عملية سياسية واقتصادية ومجتمعية متكاملة. وقد بُني هذا اليقين على ثلاث ركائز: رؤية واضحة وصدق في المواجهة وحضور دائم للدولة في قلب كل تفصيلة تؤثر على حياة المواطن. فالرؤية جعلت البوصلة مستقيمة والصدق أزال الغبار الذي كان يجمّد الوعي أما الحضور الدائم للدولة فحول الخيال إلى واقع ملموس.
لعل من أبرز مظاهر هذا اليقين أن الدولة تعاملت مع المشكلات الكبرى باعتبارها اختبارات لقوتها وليست تهديدا لوجودها. حين كانت البنية التحتية تنهار لم تُواجه الدولة الأزمة بترقيع مؤقت بل قرّرت أن تعبر من بوابة صعبة إلى عصر جديد من الطرق والكهرباء والموانئ والاتصالات. وحين كان الاقتصاد يواجه عجزا وتباطؤا وضغوطا عالمية لم تختر القيادة طريق المسكنات بل اختارت الجراحة الدقيقة التي تُعيد تشكيل الجسد الاقتصادي من جذوره. وحين تزايدت التحديات الإقليمية لم تهتز الدبلوماسية المصرية بل أعادت تموضعها بثقة ورفعت صوتها من موقع الفاعل لا المتلقي.
اليقين الذي يُبنى على رؤية صادقة يصبح قوة وطنية. وهذا ما حدث في مصر. فقد أصبح لدى المؤسسات قدرة على المبادرة ولدى الشعب استعداد لتحمل المشقة، ولدى الدولة إرادة لا تساوم على الأمن القومي ولا على السلام الاجتماعي. حتى الخطاب الرئاسي نفسه تحوّل إلى طاقة معنوية تُعيد ضبط المزاج العام وتُذكّر المصريين بأن الطريق الصعب هو الطريق الوحيد الذي تبنى به الأمم.
ورغم التحديات الهائلة التي مرت بها البلاد لم تنقطع لحظة الثقة بين القيادة والشعب. بل على العكس كل أزمة كانت تصبح شهادة جديدة على صلابة الدولة. وكأن مصر كانت تقول للعالم: نحن دولة تعرف ماذا تريد، وتعرف كيف تصل إليه، ولا تتخلى عن مسارها مهما اشتد الموج . هذا اليقين هو ما جعل المصري يستيقظ كل يوم وهو يعلم أن ثمة من يفكر، ويخطط ويدير ويحمي… وأن الدولة ليست غائبة كما كانت في سنوات سابقة بل حاضرة، وواعية ومتيقظة لكل ما يهدد استقرارها.
وقد انعكس هذا اليقين على مكانة مصر الإقليمية والدولية. ليس لأن الخطابات تغيرت ، ولكن لأن الواقع تغير. فالدولة التي تمتلك جيشا قويا واقتصادا في طور التحول ، وشبكات طاقة وموانئ وطرق ودبلوماسية متوازنة تستطيع أن تتحدث بثقة وتفاوض بثبات وتؤثر في محيطها. وهذا ما جعل مصر اليوم طرفا أساسيا في ملفات كبرى من صراعات الإقليم إلى تسويات الطاقة ومن الأمن المائي إلى أمن البحر الأحمر ومن التوازنات الكبرى في المنطقة إلى صياغة مستقبل العلاقات مع القوى العالمية.
لكن أجمل ما في صناعة اليقين أنها لم تكن صناعة سياسية فقط، بل كانت صناعة إنسانية. فقد أعادت للدولة قدرتها على احتضان المواطن وعلى التعامل معه باعتباره جزءا من المعادلة وليس عبئا عليها. في كل مشروع إسكان وفي كل مبادرة صحية وفي كل حضور للدولة في الشارع كان هناك رسالة واحدة: أنت مهم… وحقك علينا أن نعمل . وهذا الخطاب الإنساني هو ما يعيد تجديد العقد الاجتماعي ويُشعل داخل كل مواطن شعورا خفيا بأن وطنه لا يتركه وأنه ليس مجرد رقم في معادلة اقتصادية.
ومع كل خطوة جديدة تعود الدولة لتقول لشعبها: اطمئن… نحن مستمرون. هذا الاطمئنان هو أكثر ما تحتاجه الدول حين تواجه منعطفات صعبة. فالدول التي تؤمن بنفسها لا تخشى المستقبل ولا ترتبك أمام تقلبات السياسة العالمية ولا تترك للفراغ فرصة أن يتمدد.
اليوم ونحن نرى مصر تعبر من مرحلة التأسيس إلى مرحلة التمكين يصبح سؤال المقال أكثر وضوحا: كيف تُبنى الدول حين تؤمن بنفسها؟
الإجابة واضحة أمامنا: تُبنى حين يكون لديها قائد يزرع اليقين وشعب يستقبله، ودولة تعمل دون توقف ومؤسسات ترى أن النجاح ليس خيارا إضافيا بل ضرورة وجودية.
إن مشروع بناء اليقين الذي بدأ قبل سنوات لم يعد مجرد رؤية أصبح واقعا وأصبح الشعب نفسه شاهدًا عليه وجزءا من صناعته. وهذه هي القوة الحقيقية للدولة المصرية اليوم: أنها دولة آمنت بنفسها فأصبح العالم ينظر إليها باحترام وأصبح المستقبل مفتوحا أمامه لا باعتباره حلما بل باعتباره نتيجة طبيعية لعمل طويل وصبر عميق، ورؤية لا تتراجع.
وهكذا حين تُبنى الدول على اليقين… فإنها لا تتقدم فقط بل تصنع مكانا تحت الشمس لا يستطيع أحد أن ينازعها فيه.



