Jannah Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.
مقالات

شحاتة زكريا يكتب: اقتصاد يتحرك.. وأحلام تبحث عن واقع يليق بها

في عالم تتغير فيه المعادلات بسرعة الضوء لم يعد الاقتصاد مجرد أرقام تُسجّل في دفاتر الحكومات أو مؤشرات تتحرك صعودا وهبوطا على شاشات البورصات. أصبح الاقتصاد قصة شعب، وإرادة دولة، وصراعا بين الممكن والطموح وبين الواقع وتطلعاته التي لا تنتهي. وفي مصر—كما في كثير من الدول التي تقف على حافة إعادة تشكيل مستقبلها—تبدو الحكاية أكثر تعقيدا وأعمق تأثيرا. فهنا لا يتحرك الاقتصاد وحده بل تتحرك معه أحلام ملايين تبحث عن واقع يليق بتعبهم وعرقهم وانتظارهم الطويل للحظة تتسق فيها خطوات الدولة مع خطوات المواطن.

أن تقول “اقتصاد يتحرك” يعني أن هناك قوة تدفع خلف الستار وطاقات تُعاد صياغتها ودولة قررت أن تخوض معركة التفاصيل الصغيرة قبل العناوين الكبيرة. فمنذ سنوات ليست بالبعيدة بدا الاقتصاد المصري وكأنه يتأرجح في مساحة رمادية منطقة لا هي مستقرة بشكل يطمئن المواطن ولا هي متدهورة بالشكل الذي يسمح بالانهيار. كان أشبه بمريض يقف على باب غرفة العمليات، يُجمع الأطباء على ضرورة التدخل، لكن أحدًا لا يملك رفاهية التأجيل أو الخطأ. وفي تلك اللحظة الحرجة اختارت الدولة أن تدخل غرفة الإصلاح بكل ما تحمله الكلمة من ألم وتحديات وصدمات.

الإصلاح الاقتصادي في جوهره ليس شعارا ولا بيانا حكوميا بل رحلة طويلة تبدأ من الاعتراف بالخلل وصولا إلى إعادة ضبط التوازن. مصر خاضت تلك الرحلة بكل ما فيها من كلفة اجتماعية ونفسية، لكنها في المقابل أعادت هندسة بنيتها التحتية واستعادت قدرتها على الحركة وفككت عُقدا تراكمت لعقود طويلة. الكهرباء التي كانت أزمة يومية أصبحت فائضا يُصدّر والطرق التي كانت عبئا على التنمية تحولت إلى شرايين تربط المدن والموانئ والمناطق اللوجستية، والمشروعات القومية التي طالما نظر البعض إليها بريبة أصبحت اليوم قاعدة انطلاق لمصانع وقطاعات إنتاج لا يمكن أن تعمل بلا أرض ممهدة تحت قدميها.

لكن تبقى القضية ليست فيما إذا كان الاقتصاد يتحرك بل إلى أين يتحرك؟ هل يتحرك نحو النمو العادل الذي يصل فيه مردود الإصلاح إلى المواطن قبل أن ينعكس على التقارير الدولية؟ أم أنه يتحرك في فراغ لا يراه الناس إلا على الورق؟ هذا السؤال هو جوهر الأزمة وجوهر الأمل أيضا.

المواطن العادي لا يهتم كثيرًا بلغة الأسواق أو تصنيفات المؤسسات الدولية. هو يريد شيئا واحدا: واقعا يشعر فيه بأن جهده له قيمة وأن راتبه يحفظ له الكرامة وأن بلده حين تكبر… يشارك هو في هذا الكبر وليس مجرد شاهد عليه. وحين نقول إن أحلاما تبحث عن واقع يليق بها فنحن نتحدث عن هذه اللحظة التي يقف فيها المواطن أمام مرآة حياته ويسأل نفسه: هل أعيش المستقبل الذي وُعِدت به؟ أم ما زلت أبحث عنه؟

الحلم في مصر ليس رفاهية بل ضرورة للعيش. الحلم هو الوقود الذي يجعل الناس تتحمل صعوبات الإصلاح وتقبل فاتورة الزمان الصعب وتؤمن بأن الغد رغم كل شيء قد يكون أفضل. لكن الحلم وحده لا يكفي يحتاج إلى واقع يسانده وإلى سياسات تجعل الطموح قابلا للقياس وإلى حكومات تدرك أن الاقتصاد ليس معادلات صمّاء بل حياة يومية يتشارك فيها الجميع.

اليوم يقف الاقتصاد المصري أمام لحظة فارقة. العالم يعاد تشكيله اقتصاديًا، والنظرة العالمية للموارد والطاقة والتحالفات تتحول بسرعة هائلة. دول تنهض وأخرى تتراجع، وسباق القوى الكبرى يعيد رسم خرائط النفوذ. وفي هذه اللوحة شديدة التعقيد تمتلك مصر فرصة نادرة: موقع استراتيجي فريد وموارد بشرية ضخمة وبنية تحتية أصبحت جاهزة لتكون منصة إنتاج وتصدير إقليمية وإصرار دولة أدركت أن التردد أخطر من القرارات الصعبة.

ورغم ذلك، لا يزال الطريق طويلا وربما مليئًا بالمنعطفات. لكن الثابت الوحيد في هذه المعادلة هو أن الاقتصاد لن يتوقف عن الحركة. السؤال الحقيقي هو: هل ستتحرك معه الأحلام؟
هل سيجد الشباب عملا يناسب قدراتهم؟
هل ستجد الأسر استقرارا يليق بما قدمته من تضحيات؟
هل سيشعر المواطن بأن ما بُني فوق الأرض سيُترجم تحت سقفه هو؟

اقتصاد يتحرك… نعم وهذه حقيقة لا يمكن إنكارها. لكن الحلم يبحث عن أكثر من الحركة؛ يبحث عن وجهة واضحة وعن دولة تُشرك المواطن في ثمار ما تُنجزه وعن سياسات ترى الإنسان قبل الأرقام وعن رؤية تدرك أن التنمية لا تُقاس فقط بالنمو بل بقدرة الناس على أن يعيشوا بكرامة.

إن مصر اليوم لا تقف على حافة أزمة بل على حافة فرصة. فرصة لصياغة عقد اجتماعي جديد تُصبح فيه التنمية هدفا مشتركا بين الدولة والمواطن وتتحول فيه المعاناة من مجرد تضحية إلى استثمار في المستقبل. وإذا كانت السنوات الماضية قد شهدت بناء الأساسات فإن السنوات القادمة يجب أن تشهد بناء الإنسان نفسه.

وفي النهاية يبقى السؤال الأكثر صدقا والأكثر صعوبة:
هل نحن مستعدون لأن نلتقي في منتصف الطريق؟
الدولة بخطواتها، والمواطن بأحلامه، والواقع بما يفرضه، والطموح بما يدفعه.
إذا حدث هذا الالتقاء فسوف نكون أمام معجزة اقتصادية ليست مجرد أرقام بل قصة شعب أعاد كتابة مصيره بإرادته، لا بما يمليه عليه العالم.

اقتصاد يتحرك… وأحلام تبحث عن واقع يليق بها.
وربما إذا استطعنا أن نوفّق بين الاثنين سنبني مستقبلا لا يليق بنا فقط… بل نفتخر بأن نتركه للأجيال القادمة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى