Jannah Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.
سلايدرمقالات

شحاتة زكريا يكتب: أصوات من تحت الركام.. الحكاية التي لا يريد أن يسمعها أحد

هناك في أماكن بعيدة عن ضجيج المؤتمرات وخطابات الساسة تختبئ الحكايات الحقيقية. ليست حكايات النصر أو الهزيمة، ولا تلك التي تُزين شاشات الأخبار، بل حكايات تُروى بصوت متقطع بين أنفاس مكسورة، تحت غبار الأسقف المنهارة. إنها أصوات من تحت الركام تحمل في كل حرف منها شهادة على ما جرى لكنها في أغلب الأحيان لا تجد من يصغي لأن العالم مشغولٌ برواياته الرسمية.

تحت الأنقاض تختفي ملامح المكان، لكن ملامح البشر تظل أصدق من الخرائط. هناك طفل يبحث عن يد أمه وسط الظلام وامرأة تُمسك بيد جارتها التي فارقت الحياة، ورجل يحاول أن يزيح حجرا عن جسد أخيه وهو يعلم أن الأوان قد فات. في تلك اللحظات لا مكان للسياسة أو المفاوضات ولا قيمة لوعود الإعمار أو بيانات الشجب لأن الحقيقة الوحيدة هي أن الزمن توقف بين قلب ينبض وآخر توقف عن الخفقان.

العالم يسمع هذه الأصوات أحيانا لكنه يتظاهر بعدم الفهم. فالصوت الذي يخرج من تحت الركام ليس مجرد استغاثة، بل هو اتهام مباشر: لماذا تُركنا هنا؟ لماذا أصبحنا أرقامًا في تقارير باردة أو مشاهد عابرة في نشرات الأخبار؟ إنها أصوات لا تعترف بالتحالفات ولا بالحدود لكنها تصطدم دائمًا بجدار الصمت لأن الحكاية التي تحملها قد تُربك الحسابات الكبرى.

في كل حرب هناك رواية رسمية وهناك رواية الناجين. الرواية الرسمية تتحدث عن الأسباب والنتائج والخطط والخرائط بينما رواية الناجين تبدأ من لحظة الانفجار ولا تنتهي إلا حين تُغلق العيون إلى الأبد. الفرق بين الروايتين هو الفرق بين صورة ملتقطة من قمر صناعي، وصورة أخرى ملتقطة بعين إنسان رأى الموت يمر أمامه. الأولى باردة ومحايدة والثانية مشبعة بحرارة الدموع ورائحة الدم.

لكن لماذا لا يريد أحد أن يسمع هذه الحكايات؟ ربما لأنها تكشف ما يخفيه الأقوياء، أو لأنها تذكّر بأن الحرب ليست أداة تفاوض بل مقصلة للضعفاء. وربما لأن الاعتراف بها يعني الاعتراف بالتقصير، وأن الصمت أهون من مواجهة الحقيقة. ولهذا تُترك الأصوات تختفي ببطء، كما يختفي صدى صرخة في وادٍ بعيد.

غير أن هذه الأصوات مهما حاولوا دفنها، تعود لتشق طريقها إلى السطح. قد يحملها صحفي مغامر، أو طبيب إغاثة، أو حتى صورة التقطها هاتف مرتجف. هي أصوات عنيدة، تعرف أن بقاءها هو شكل من أشكال المقاومة وأن تكرار الحكاية هو السلاح الوحيد الذي تملكه.

لقد علّمتنا الكوارث الكبرى أن الخراب لا يبدأ بالقنابل بل يبدأ حين نصبح غير قادرين على الاستماع. حين تتحول المآسي إلى خلفية باهتة لحياتنا اليومية نكون قد فقدنا القدرة على التعاطف، وعندها نصبح جزءًا من المشكلة. فما قيمة العالم إذا كان صوته أعلى من صوت المظلوم لكن قلبه أضعف من أن يحتمل الحقيقة؟

إن الحكاية التي لا يريد أحد أن يسمعها اليوم قد تكون غدًا الحكاية التي يخشاها الجميع. فالأصوات التي تأتي من تحت الركام لا تحمل فقط وجع الضحايا بل تحمل أيضًا إنذارًا لمن يظن أن الدور لن يأتيه. والتاريخ مليء بأمثلة على شعوب كانت تتفرج، ثم وجدت نفسها في قلب المشهد.

لذلك ربما يكون واجبنا اليوم أن ننصت لا أن نُسكت. أن نمنح هذه الأصوات مساحة في وعينا وضمائرنا، قبل أن يمنحها النسيان قبراً جديداً. فالحكايات التي تُروى في الظلام قد تكون هي الضوء الوحيد القادر على فضح الظلم، وربما على منعه من التكرار.

وفي النهاية يبقى السؤال: كم من الحكايات ماتت تحت الركام لأننا لم نمد أذنًا لنسمعها؟ وكم من الأرواح كان يمكن إنقاذها لو أن الحقيقة لم تكن عبئًا على مسامعنا؟ الإجابة ليست في كتب التاريخ، بل في ضمير كل واحد فينا لأن التاريخ الحقيقي هو ما نفعله حين نسمع صوتًا يصرخ من تحت الأنقاض، ويقول: أنا هنا… لا تنسوني.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى