
منذ عقدين من الزمن، وقبل أن يصبح “شات جي بي تي” و”ديب فيك” جزءاً من حياتنا اليومية، قدمت هوليوود فيلم “Simone” بطولة آل باتشينو. الفيلم الذي بدا ككوميديا ساذجة عن ممثلة افتراضية، يظهر اليوم كـ”نبوءة” مذهلة لما نعيشه مع ثورة الذكاء الاصطناعي في الفنون.
الغريب أن الفيلم لم يكن وحيداً في هذه النبوءة. فمن “Blade Runner” إلى “Her”، عودتنا هوليوود على فكرة التعايش مع الذكاء الاصطناعي. لكن “Simone” كان مختلفاً إنه كشف النقاب عن كيف سنتفاعل نحن الجمهور مع هذه التكنولوجيا، وكيف ستغير مفهومنا عن الإبداع والأصالة.
اليوم، بينما تقف صناعة السينما على مفترق طرق مع إضرابات الممثلين والكتاب ضد الذكاء الاصطناعي، وبينما تظهر أولى الأفلام التي تستخدم ممثلين رقميين بالكامل، يبدو أن “Simone” لم يكن مجرد فيلم، بل كان دليلاً إرشادياً للمستقبل الذي نعيشه الآن
الفيلم يعرف أيضًا باسم S1m0ne، هو فيلم خيال علمي/كوميدي من إنتاج عام 2002، من بطولة آل باتشينو وإخراج أندرو نيكول .
يتناول الفيلم قصة مخرج أفلام (باتشينو) يواجه مشاكل في عمله بسبب غرور الممثلات وتقلباتهم، فيقوم بابتكار ممثلة افتراضية اسمها “سيمون” (اختصارًا لـ “Simulation One” باستخدام الذكاء الاصطناعي. تنجح “سيمون” وتصبح نجمة عالمية، لكنه يجد نفسه في مأزق عندما يضطر لإبقاء حقيقة أنها غير حقيقية سرًا.
كما شرحنا في المقال السابق، أن هوليوود تستعمل لحناً ثابتاً، فالفيلم كالمعتاد ظاهره يبدو أنه يطرح سؤالًا ذكيًّا عن حدود الفن والتكنولوجيا وهل يمكن للجمهور أن يحب فنًّا مُخلقًا بالكامل بالكمبيوتر؟ خاصة في وقت صدوره (2002)، حيث كانت التأثيرات الرقمية لا تزال جديدة نسبيًّا. استعانت هوليوود بطريقتها المعروفة “الهزلية” بالإضافة إلى أداء آل باتشينو، حتى في الأفلام غير الممتازة، باتشينو يقدم أداءً مشوقًا. هنا يجسد المخرج اليائس الذي يخدع العالم بفضل “كذبة تكنولوجية”، ويُظهر تناقضات بين الفن والنزاهة. ولكن بعد مرور عقدين من الزمن نتساءل هل هوليوود تختبر رد فعل الجمهور؟ أم أنها ببساطة كانت تُهيئنا لقبول مستقبل مزيف؟ الأكثر إثارة للقلق..هل ما زال لدينا خيار للرفض؟
فيلم “Simone” لم يكن مجرد كوميديا عن صناعة السينما، بل كان نبوءة غير مباشرة عما نعيشه اليوم مع ثورة الذكاء الاصطناعي في الفن والإعلام. الفيلم يطرح أسئلة صادمة أصبحت واقعًا الآن:
جعل الفكرة تبدو “مضحكة” بدل أن تكون مرعبة، الفيلم قدَّم “سيمون” كمزحة كبيرة الجمهور ضحك على جهل الصحفيين وعبادة المشاهير الوهميين، بدل أن يفزع من الفكرة. اليوم، نرى نفس النهج مع الذكاء الاصطناعي: “Deepfake” توم كروز على تيك توك كان مسليًا للناس أولًا. وأغنية “AI Drake” أثارت ضجة، لكن الكثيرين تعاملوا معها كـ “نكتة”. الفيلم خفَّف من صدمة الفكرة بتحويلها إلى كوميديا، مما جعلها مقبولة ثقافيًّا قبل أن تصبح حقيقة. أو صور مُولَّدة بالكامل (مثل الفيلم الروسي “Дорогой папа”الذي استخدم نسخة رقمية من ممثل ميت!). شركات مثل Synthesia تخلق “مذيعين افتراضيين” للدعاية
كشف أن الجمهور لا يهتم بالحقيقة طالما المحتوى جذاب
في الفيلم، الناس تعشق “سيمون” رغم أنها غير حقيقية، لأنها جميلة، كاملة، ولا تخطئ، هذا يحدث اليوم مع ال influencers الرقميين (مثل ليلكويلا) الذين يجذبون متابعين أكثر من بشر!. كما أن أغاني AI التي يحبها الجمهور رغم معرفتهم أنها مزيفة. بالإضافة إلى أغانٍ تُنسب لفنانين لم يغنوها أصلًا (مثل الأغنية المُزيفة لـ “دايڤ بوي” وترافيس سكوت’ التي انتشرت على تيك توك).الجمهور يتفاعل مع المحتوى الافتراضي بنفس حماس الواقعي، بل أحيانًا يفضلونه لـ “كماله” المُصطنع كما تنبأ أو “هيأ” الفيلم
الفنان البشري أصبح “غير ضروري آل باتشينو (في دوره كمخرج) يخاف أن يُكتشف أنه لا يتحكم بـ “سيمون” حقًّا، رغم أنها من صنعه. كشف علماء برمجة أن 7 من أصل 10 من برمجة الذكاء الاصطناعي ترفض الامتثال لأوامر الإغلاق وتحتال عليها. اليوم، الفنانين الحقيقيين يواجهون تهديدات مثل أغاني AI تُقلد أصواتهم، مثل حالة أم كلثوم المُعاد إحياؤها رقميًّا في حفلات. وسيناريوهات كُتبت بالكامل بواسطة ChatGPT . لوحات فنية مُنافسة بشرية (مثل تلك المولدة بـ MidJourney.
جعل التكنولوجيا تبدو “حتمية”، في الفيلم، لا أحد يقول: “هذا غير أخلاقي! بل الجميع يتعامل مع “سيمون” كـ تطور طبيعي للسينما. اليوم، نفس الشيء يحدث مع الذكاء الاصطناعي ستوديوهات تستبدل الكُتَّاب والممثلين بـ AI دون تردد. والجمهور يتعايش مع الأفلام المُولَّدة بالذكاء الاصطناعي مثل “The Frost” أول فيلم روائي بـ AI. الفيلم زرع فكرة أن “المستقبل سيأتي سواءً أعجبنا ذلك أم لا”.
السينما كـ”سلاح ناعم
لا يوجد “فن بريء حتى الأفلام الكوميدية الساخرة مثل “Simone” تُستخدم لـ اختبار ردود الأفعال وتهيئة الأرضية لأفكار أكثر تطرفًا.
التكتيك ثابت
– البداية: سخرية (مخرج لا تريد أي ممثلة العمل معه!).
– لاحقًا: جدال إعلامي (هل يمكن أن يحدث هذا؟).
– النهاية: تطبيع (الذكاء الاصطناعي مقتحم حياتنا!).
هوليوود ليست مرآة تعكس الواقع، بل مطرقة تشكله، فيلم مثل “Simone” لم يكن مجرد سخرية من مخرج لا يستطيع توظيف أى ممثلة، بل كان نبوءة مُعدة مسبقًا لفكرة ستُطرح لاحقًا، المبالغة في السخرية أكثر خطراً من الواقعية الآن.الفيلم كان “تدريبًا” ثقافيًّا على صدمة الذكاء الاصطناعي الفيلم لم يُنبهنا للمستقبل فحسب، بل ساعدنا على تقبله نفسيًّا من خلال تحويل الفكرة المرعبة إلى كوميديا. إظهار أن المحتوى الافتراضي قد يكون أكثر جاذبية من الواقع. تقديم التحذيرات بطريقة خفيفة كي لا نرفض الفكرة تمامًا.
وهذا ليس سوى حلقة في سلسلة طويلة بدأتها هوليوود، حيث تتحول الأفكار المستحيلة إلى نقاشات إعلامية، ثم إلى وقائع مفروضة.
الغزو ليس بالدبابات فقط، بل بالكاميرات أيضًا..
هم يصورون الخيال، ونحن نعيشه