
إعداد: بسنت عماد
على الضفة الغربية لنهر النيل في الأقصر، وبين وادي الملوك ووادي الملكات، تقف مدينة «دير المدينة» شاهدة على عبقرية المصري القديم في التنظيم والعمل والإبداع.
لم تكن مجرد تجمع سكني، بل كانت أول مدينة عمالية منظمة في التاريخ، أسسها قدماء المصريين لتكون مقرًا لأمهر الحرفيين والبنّائين الذين شيدوا مقابر وادي الملوك وأبدعوا أروع النقوش والجداريات.
وفي إطار سلسلة تقريرنا «الأهرامات لم تكن الاستثناء الوحيد»، التي نفتح من خلالها ملفات حضارة مصر القديمة وما تخفيه من كنوز غير معروفة بالقدر الكافي، نجد أن «دير المدينة» تقدم نموذجًا حيًا يثبت أن عظمة المصريين القدماء لم تتجسد فقط في الأهرامات، بل في مدن ومجتمعات متكاملة وضعتها الدولة لخدمة مشروعاتها العملاقة.
بيت الحقيقة
أطلق المصريون القدماء على هذه المدينة اسم «مكان الحق» أو «بيت الحق»، وسكانها كانوا يُعرفون بـ«خدام مدينة الحق». تأسست في عصر الأسرة الثامنة عشرة، واستمرت حتى نهاية الأسرة العشرين (1570–1070 ق.م)، أي في أوج الدولة الحديثة. ورغم أنها تعرضت لحريق هائل في بداياتها، أعيد بناؤها في عهد الملك تحتمس الثالث، لتزدهر لاحقًا خاصة في عصر الرعامسة.
مجتمع متكامل
بلغ عدد سكان دير المدينة نحو 400 أسرة، أي ما يقارب 5000 نسمة بين عمال وحرفيين وأسرهم. قُسموا إلى مجموعتين: «أهل اليمين» و«أهل اليسار»، بحسب مواقع عملهم داخل المقابر.
كان على رأس كل مجموعة «كبير العمال» الذي يعينه الوزير، ويعاونه «نائب كبير العمال»، بينما تولى «كاتب المقبرة» تسجيل الحضور والغياب وتوزيع الأدوات والمواد التموينية التي كانت بمثابة الأجور.
المدينة نفسها كانت محاطة بسور، وبداخلها بيوت متفاوتة المساحة بين البسيط والفخم، تعكس مكانة ساكنيها.
كان بها نظام صارم للحراسة والإدارة، وأرشيف ضخم من البرديات كشف لنا تفاصيل حياتهم اليومية، من العمل والدين إلى الزواج والخلافات.
عاصمة الحرفيين
ضمّت دير المدينة نخبة من النقاشين، الرسامين، قاطعي الأحجار، النحاتين، وصانعي الأثاث الجنائزي. كانوا وراء أعظم مناظر المقابر الملكية، ونقشوا تفاصيل الحياة والموت بمهارة جعلت فنونهم باقية حتى اليوم.
حتى إخناتون، حين أسس عاصمته «أخيتاتون» في تل العمارنة، استعان بكثير منهم لخبرتهم الفريدة.
أول إضراب في التاريخ
لم يكن سكان دير المدينة مجرد منفذين للأوامر، بل عرفوا حقوقهم وناضلوا من أجلها.
ففي العام 29 من حكم رمسيس الثالث، خرج العمال في أول إضراب مسجل في التاريخ، احتجاجًا على تأخر صرف أجورهم وانتشار الفساد بين المسئولين.
بدأت الأحداث في الشهر السادس من ذلك العام، حين تحرك العمال في مظاهرة وصلت حتى معبد تحتمس الثالث، واعتصموا هناك، رافضين كل محاولات مسئولي الإدارة لإقناعهم بالعودة.
وفي اليوم التالي، تظاهروا عند معبد الملك منتوحتب الثالث، ثم ساروا حول سور معبد الرامسيوم حتى وصلوا بابه الجنوبي، حيث حاول الكاتب «بنتاورت» التفاوض معهم وأعطاهم خمسًا وخمسين كعكة.
لكن الاحتجاجات لم تهدأ.. اعتصموا في معبد مرنبتاح، وواجهوا عمدة طيبة الذي فشل في تهدئتهم، فهرب وأرسل لهم الجنايني «منيوفر» محملًا بالقمح لتوزيعه عليهم.
وهنا برز دور زعيم العمال «بن إنوكي» الذي عرض مطالب العمال بجرأة غير مسبوقة، موجهًا اتهامات خطيرة لمسؤولين كبار مثل «وسرحات» و«بنتاورت» بسرقة أحجار من مقبرة رمسيس الثاني، وثور مرقط من معبد الرامسيوم، بل وارتكاب مخالفات أخلاقية.
ولم يتوقف عند ذلك، بل لمح إلى تستر الوزير «حوري» نفسه على هذه الجرائم.
تمثلت مطالب العمال في صرف الأجور المتأخرة، ومحاربة الفساد، وإيصال صوتهم مباشرة إلى الفرعون أو وزيره «تو».
وبعد سلسلة من الاعتصامات والمفاوضات، استجابت السلطة لمطالبهم، ليسجل التاريخ أول إضراب عمالي قبل أكثر من 3500 عام.
إرث خالد
أهمية دير المدينة لا تكمن فقط في كونها مركزًا لبناء المقابر الملكية، بل في أنها كشفت عن نموذج متكامل لإدارة العمل والمشروعات الكبرى في مصر القديمة. مدينة عمالية منظمة، بمؤسساتها وأدواتها ورقابتها، تركت لنا صورة حية عن الجانب الإنساني والاجتماعي للحضارة المصرية.
وكما نعيد اكتشاف دير المدينة اليوم، سنواصل في تقاردنا القادمة تتبع مواقع وأحداث أخرى من مصر القديمة، لنؤكد مرة بعد مرة أن الأهرامات لم تكن الاستثناء الوحيد، بل كانت إحدى ثمار حضارة إنسانية عظيمة، نسجت تفاصيلها في كل زاوية من أرض مصر.