fbpx
معرفة

التاريخ يتحدث عن نفسه: كيف مَزَجَ المصريون الهيلوغريفية بالعربية ؟!

كتبت: فاطمة رفعت

 

اقتحمت اللغة العربية مصر، قبل دخول الإسلام، بفترة طويلة، إذ لعبت هجرات القبائل العربيّة دورًا كبيرًا في تسلُّل اللسان العربي إلى المصريين، وحتى ما قبل ظهور ديننا الحنيف..!

 

وقد ساعدت على هذا قبائل عربية كثيرة، هاجرت إلى مصر، قبل ظهور الإسلام، من أهمها :”كهلان، وغسان، ولخم، وجذام، وعاملة”، التي استقرَّت في شمال غرب سيناء، وقبيلة “بلي” التي استوطنت القُصير، وغيرها من قبائل، استقرَّ أغلبها في شرقي مصر، من الشمال إلى الجنوب، حسبما ذكر أستاذ علم اللغة الكبير الدكتور أحمد مختار عمر، في كتابه “تاريخ اللغة العربيّة في مصر”.

 

وبعد الإسلام، تضخّمت تلك الهجرات بشكلٍ كبير، فقد توافد على مصر آلاف العرب، بدءًا من أفراد الجيش، الذي دخل مع عمرو بن العاص، بالإضافة إلى الهجرات الحرّة، إذ احتكَّ الأفراد، والقبائل، بالمصريين، وشاركوهم معايشهم، ليبدأ، بعدها، التلاقح بين ألسنتهم، وألسنة المصريين.

 

ورغم التمازج، و التعايش بين المصريين، والعرب، يذكر المؤرخ عاصم الدسوقي أستاذ التاريخ الحديث بجامعة حلوان، إن “اللغة المصرية القديمة ظلَّت حية في بيوت المصريين وأسواقهم، بدءًا من فتح مصر، على يد الصحابي عمرو بن العاص، وحتي قُرابة أربعة قرون من الزمان.

 

وأشار الدسوقي إلى المصادر التاريخية، التي أوضحت أن الخليفة العباسي الأمين بن هارون الرشيد، حينما جاء إلى القاهرة، تجول في أسواقها، مُصطحبًا معه مترجمًا، ليترجم له ما يقوله الناس، وينقل عنه كلامه لهم، مُعتبِرًا أن اللغة العربية انتشرت بقوة بين المصريين، بدءًا من القرن الرابع الهجري، بسبب حركة التعريب، في عصر الخليفة عبد الملك بن مروان ( 65 ـ 86 هـ / 684 ـ 705 م )

 

حتى جاءت مرحلة تعريب الدواوين في مصر، فقد كانت الدولة الإسلامية، منذ العصر الراشدي، وحتى الأموي، تعتمد على العناصر الأجنبية في إدارة شؤون الدواوين، ولم يظهر أي اهتمام من العرب لتعلم هذه المهنة، لانشغالهم في الحروب، والفتوحات، إلى أن أوْلى الخليفة عبدالملك بن مروان اهتمامًا خاصًا بإدارة شؤون الدولة، و تحويلها من القبلية، أو العشوائية إلى شكل المؤسسات الإدارية.

 

وسارت إصلاحات عبدالملك في اتجاهين، هما: تطوير الجهاز الإداري، وتنشيطه، مع تعريب الدواوين في كل الولايات الإسلامية، وقد أثمرت إصلاحات الخليفة الأموي نجاحًا ملحوظًا، وتميز المصريين فيها، بإجادة اللغة العربية، كتابة، وتحدُّثًا، في مختلف المناصب، والرُّتب.

 

وعلى الرغم من براعة المصريين في استخدام اللغة العربية بإدارة الدواوين، فإن الكنيسة المصرية لعبت دورًا ملحوظًا في التمسك، والتشبث باللغة المصرية القديمة، وحفظها من الاندثار، من خلال التمسك بها في الصلوات، وإقامة الشعائر الدينية، واستخدمها في الطقوس الكنسية.

 

ولولا تمسك البطاركة الأقباط بلغتهم المصرية القديمة، ما تمكن العالم الفرنسي (شامبليون) من اكتشاف أسرار اللغة المصرية القديمة، عن طريق فك رموز (حجر رشيد) الأثري، وما نتج عن هذا الكشف الأثري العظيم من التوصل إلى معرفة قراءة الكتابة (الهيلوغريفية)، ونجاحه في فك طلاسم اللغة المصرية القديمة، فأنقذ علوم، ومعارف القدمين، من الضياع، فضلًا عن أن استعمال اللغة الفرعونية القديمة، بجوار اللغة العربية، قد ميَّز اللهجة العامية المصرية، فأصبحت مُتفردة، ليس لها شبيه، حتى أضحت لغة مصر الدراجة مختلفة عن سائر لهجات اللغة العربية المُستعملة في الأقطار العربية، قاطبة.

 

وتوصلت الباحثه في علم المصريّات والتاريخ القبطي بجامعة مونستر الألمانيّة صموئيل معوض، في دراسة له، بعنوان “عندما أصبحت اللغة العربيّة لغة القدّيسين – When Arabic Became the Language of Saints” إلى أن الانتقال المصري إلى العربية تمّ بشكل تدريجي؛ إذ بدأ اللسان العربي غريبًا بين الأقباط، في القرن السابع الميلادي، ثم اختلط تدريجيًّا باللسان القبطي، لتنشأ مرحلة صراع بين اللغتين على ألسنة المصريين، الذين ظلّوا، لقرون، مزدوجي اللغة، إلى أن انتهى الأمر بهم إلى العربيّة.

 

وذكر معوّض أن هذا الصراع انعكس، أيضًا، في القرن العاشر الميلادي، على رجال الدين، والكنيسة الأرثوذُكسيّة، التي كان يتبعها أغلب المصريين، إذ بدأت تظهر كتابات دينيّة مسيحيّة باللغة العربيّة، ولكن بشكل فردي، من قِبَل بعض رجال الدين، ولكن الأمر حُسم تقريبًا لمصلحة اللغة العربية، في القرن الثاني عشر، حين تُرجم الكتاب المقدّس إلى العربيّة، أي بعد أكثر من 500 عام على دخول المسلمين مصر.

 

وأشار الباحث إلى أن الكنيسة اضطُرَّت إلى هذا التحوّل، بسبب نموّ اللغة العربيّة التدريجي في الشارع المصري، مقابل تراجع القبطيّة تدريجيًّا، أيضًا، وبتتبُّع رحلة انتقال مصر من القبطية إلى العربية، وجد أن هناك مسارين، مضى خلالهما هذا التحول، وهما :المسار الشعبي، والمسار الديني الكنسي.

 

ولحسن الحظ، لم تُغيِّر الأيام، والقرون، بعض الكلمات،  التى كان يستخدمها أجدادنا القدماء، مثل : (فاس ، و شادوف ، و شونة ، و جُرن ، و ماجور ، و زير ، و مَشنَّة ، و بقوتى ، و سلَّة ، و بشكير ، و فوطة، و تخت، و ششم، و بتّاو، و خِتم ، و طوبة)، وكذلك الكلمات التي كانوا يقولونها للحمار، والحصان، مثل : ( حا ، و شِي ، و هُس، و جِر، و بس ، و زِر )، وللطير ( هِش).

 

والقائمة طويلة، ومنها، أيضًا، علي سبيل المثال لا الحصر، كلمة (مدمس)، التي نُطلقها، الآن، علي الفول المستوى فى الفرن، بواسطة كَمْرة، وهو أكثر الوجبات شعبية لدى المصريين، والكلمة مستقلة من الأصل الهيلوغريفي (متمس) أى إنضاج الفول.

 

ومن الأكلات الشعبية، كذلك، التى اكتسبت اسمها من اللغة المصرية القديمة، (البيصارة)، واسمها القديم (بيصورو)، ومعناها الفول المطبوخ.

 

ومن المصطلحات الشعبية الدارجة، التي يستخدمها المصريون، في الوقت الحالي، وترجع إلى أصول قبطيَّة،  (شبشب)، و(الخُف)، و(صهد) التي تعني في اللغة المصرية القديمة النار، و(طنِّش) ومعناها بالهيلوغريفي “لم يستجب”، و(بطَّط ) أى دهس، و(بطَح) بمعنى “ضرب فى الرأس”، و(ست) أي امرأة، و(هَوْسة) أي ضجيج ، و(حبّة) أي بذرة، و(ياما) وتعني الكثرة، و(خَم) أي خدع، و(كركر) أي قاربت على التوقف، و(كَح كَح) أي صار عجوزًا ضعيفًا، و(نونو) وهو صوت القطة، و(مأهور) أي أصابه القهر، و(برّش) أي مكث واستقر في مكانه لا يبرحه ، و(مأأ) أي احتد النظر، و(فنخ) بمعنى سقط من التعب، و(همهم) أي أغراضهم، و(أُبّح) وتُقال للطفل لحثه على القفز لأعلى، و(كاني ماني) وتعني “لبن وعسل” في اللغة الفرعونية، ولكن المصريون أخرجوها عن سياقها، واستخدموها بمعنى “تكملة الحكي”.

 

أما أهم ماسبق فهو جملة نداء رمضان المشهور “وحوي ياوحوي إياحه”، ولها قصة جميلة، ترجع أصولها الفرعوني إلى الملكة (إياح حُتب) أم الملك المُظفّرأحمس طارد الهكسوس، التي خرج المصريون يحيونها، بعد طرد المعتدين، فهتفوا لها (واح واح إياح)، بمعنى “تعيش تعيش إياح”، ومع مرور الزمن، تحولت الكلمة، إلى الجملة الحالية “وحوى ياوحوى إياحه “، التي صرنا نهتف بها،الآن، في كل رمضان.. وما جميع تلك الكلمات إلا غيضٌ من فيض لغتنا المصرية الأم الأصيلة، التي أبى أجدادنا أن يهجروها.

 

وقد ذاعت شهرة أغلب تلك الكلمات الدارجة من اللهجة المصرية الحالية، في معظم البلدان الناطقة بالعربية، لدرجة أن شعوبها فهمت معانيها، وأخذت ترددها مع المصريين، في سعادة، ويرجع هذا إلى التأثير المصري على منطقة الشرق الأوسط، وشمال إفريقيا، منذ عدة قرون، عن طريق وسائل الإعلام، والفنون، بكل أنواعها، من سينما، ومسرح، وموسيقى، وغناء، حتى باتت مصر، الآن، ومازالت مركزًا للثقافة الشعبية العربية، من خلال ماتملكه من ثراء ثقافي، وفني، شكّلت به وعي الأمة العربية، وستظل شاهدة علي تعاقب الأقدام علي أرضها، لتترُك هي الأثر، وينتشر عبق تاريخها عبر الأمم، ولكنها تأبي أن يُسْرقَ مجدها.. وكما قال الشاعر في وصف مصر :

فلم تزلْ

يقظانةَ العينين صَلبةَ القدمِ

في الأرضِ كالجبلِ

وفي السماءِ للذُّرى وللقِممِ

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى