
إعداد: بسنت عماد
الأهرامات لم تكن الاستثناء الوحيد في سجل إبداعات المصريين القدماء؛ فكما أدهشوا العالم بعبقريتهم في البناء والهندسة، قدّموا له أيضاً أعظم ما يحتاجه الإنسان.. “الطب”.
ومن رحم هذه الحضارة خرجت البرديات الطبية لتعلن أن مصر لم تُشيد فقط أعظم صروح التاريخ، بل علّمت البشرية كيف تواجه المرض وتصون حياتها. وفي مقدمتها تتصدر بردية إيبرس كأضخم موسوعة طبية عرفها العالم القديم.
رحلة اكتشاف بردية إيبرس
ترجع بردية “إيبرس الطبية” إلى نحو 3500 عام تقريبًا خلال عصر الملك أمنحتب الأول من ملوك الأسرة الثامنة عشر.
في عام 1862 حصل عالم المصريات الألماني جورج إيبرس على وثيقة استثنائية، تبيّن لاحقاً أنها تعود إلى حوالي 1500 قبل الميلاد، لكنها في الأصل نسخة من مخطوطة أقدم بألف عام.
واشترى العالم الألماني البردية من فلاح مصري بالأقصر، وهي محفوظة حاليًا في جامعة ليبزج.
وتحتوي على نحو 887 وصفة طبية لأنواع عديدة من الأمراض وطرق علاجها.
وتكشف هذه الوثيقة عن نظام دقيق للاستدلال الطبي، حيث توجه الطبيب أولاً لطرح الأسئلة على المريض، ثم يجري فحصاً جسدياً يشمل ملاحظة الرائحة والنبض والتنفس.
وبعدها يفحص البول والبراز واللعاب، في خطوات تشبه التحاليل المخبرية الحديثة.
وفي النهاية يضع التشخيص ضمن ثلاث احتمالات: مرض قابل للعلاج، مرض يمكن السيطرة عليه، أو مرض لا أمل في شفائه.
محتوى البردية
احتوت البردية على ترتيب مميز للنصوص، بدأ بتوسلات للمعبودات طلبًا للشفاء وتخفيف الألم، ثم عرضت أعراض عدد من الأمراض الباطنية وطرق علاجها.
كما تضمنت وصفات خاصة بأمراض العيون، والجلد، والأطراف، إضافة إلى أمراض النساء وعلاجها، مع إشارات دقيقة إلى القلب والشرايين، والجروح ووسائل علاجها.
ويبرز في نصوصها مقطع مدهش يصف حالة تتطابق مع ما نعرفه اليوم بالذبحة الصدرية أو انسداد الشريان التاجي، إذ جاء فيها: “إذا تفحصت مريضًا بالمعدة يشكو من آلام في ذراعه وصدره وناحية من معدته، قل بصدده الموت يهدده”.
كما تناولت البردية وصفات لعلاج الأورام مثل الأورام الدهنية والقروح، وطرق تسكين آلام الأسنان بل وحتى حشو الأسنان المصابة بالتسوس.
ولم تغفل أيضًا الأمراض النفسية؛ فقدمت علاجات لتحسين حالة المريض المصاب بالاكتئاب، إلى جانب وصفات للحروق، والتهابات المفاصل، والصداع، والربو.
أطباء بتخصصات دقيقة
تكشف النقوش على المقابر والبرديات أن الطب في مصر القديمة كان متقدماً في تخصصاته؛ فقد وُجد أطباء للأعصاب، وأطباء عيون، وأطباء أسنان، وأخصائيو جهاز هضمي، وحتى أطباء مختصون في أمراض المستقيم.
بل إن بعض الأطباء جمعوا بين أكثر من تخصص، مثل الطبيب عير أون آخي الذي قدّم نفسه كأخصائي في العيون والجهاز الهضمي معاً.
إمحوتب.. الطبيب الأسطورة
من بين الأسماء البارزة يبرز إمحوتب، مهندس هرم زوسر، الذي اعتُبر لاحقاً أحد أوائل الأطباء في التاريخ.
ورغم ندرة الأدلة المادية على ممارسته للطب، فإن صورته كطبيب راسخة في الذاكرة التاريخية حتى اليوم.
نبذة عن البرديات الطبية المصرية
بعد أن كشفت بردية إيبرس عن موسوعة شاملة في علم الطب، لا يمكن إغفال بقية البرديات التي شاركت في رسم ملامح المعرفة الطبية عند المصريين القدماء، حيث تنوعت مجالاتها بين الجراحة وأمراض النساء والتشخيص:
بردية إدوين سميث
اكتُشفت في القرن التاسع عشر، وتُعد أقدم وثيقة معروفة في مجال الجراحة.
تركز على الإصابات والكسور وطرق علاجها، وتكشف أن الطب عند قدماء المصريين لم يكن مجرد وصفات، بل شمل أيضاً التشخيص الدقيق للحالات الجراحية.
بردية كاهون
تعود إلى نحو 1800 قبل الميلاد، وتختص بأمراض النساء. تناولت الحمل، الولادة، وتنظيم الأسرة، وتعد من أوائل الوثائق التي سجّلت بوضوح الممارسات الطبية الخاصة بالمرأة.
ختاماً… تظل بردية إيبرس شاهداً على أن الطب عند قدماء المصريين لم يكن مجرد وصفات بدائية، بل منظومة متكاملة تمزج بين العلم والملاحظة والتجريب.
إنها وثيقة تضع المصريين القدماء في مقدمة رواد الطب، وتؤكد أن حضارة شيّدت الأهرامات هي ذاتها التي علّمت العالم كيف يصون الحياة.