
لم يعد ممكنا التغافل عن دور الترند في تشكيل تصورنا للأحداث، وكيف يمكنه أن يحول حوادث منعزلة إلى ما يشبه “الظواهر” بسبب ممارسة التركيز الزمني المكثف وهو ما يحتاج منا لفهم عميق يتعلق بسوسيولوجيا الإعلام و علم النفس الجماعي.
فإذا كنت مهتما بمعرفة فهم آلية صناعة التصور الجماعي بقوة الترند و باستخدام استراتيجيات علم النفس الجماعي؛ فدعنا نتأمل سوياً من خلال هذا المقال الجانب التحليلي لهذه الصناعة و كيف تتم العملية التحويلية للحدث من حدث فردي إلى ظاهرة باستخدام الترند.
و لفهم هذا الأمر ببساطة سنحتاج إلى أن نفكك هذه العملية التحويلية إلى جزئين رئيسيين وهما كالتالي:
الأول: كيف يخلق الترند وهم الانتشار عبر التكرار الزمني المكثف؟
الثاني: كيف تتحول الحوادث المنعزلة إلى سردية جماعية؟
يعمل الترند على تشويه إدراكنا للأحداث بين التركيز على حوادث محدودة وخلق وهم الظاهرة و يتجلى ذلك عبر آليات نفسية وإعلامية معقدة، يمكن تفصيلها كالتالي:
أولا: استراتيجية التركيز الزمني المكثف و تضخيم الأحداث العابرة و فيها يضغط الترند بشدة على زمن ظهور الحوادث مثل حادث حريق صادم أو جريمة غريبة في فترة وجيزة لساعات أو أيام مع ممارسة التكرار الإعلامي والمشاركة الجماعية ما يُحدث تضخيمًا سيكولوجيًا يُشعر المتلقي بأن الحادثة “تحدث باستمرار” ؛ فمثلا لو انتشرت 3 حوادث طرق في مدن مختلفة خلال يومين على “تويتر” تحت هاشتاج #حادثة-لكل-مواطن، سيُخلق هذا انطباعاً بأنها ظاهرة رغم كونها حوادث منفصلة ولا تشكل ظاهرة بالمعنى الصحيح.
ثاني: استراتيجية التحيز الإدراكي عن طريق وهم التواتر أي وهم التناقل و التكرار ؛ فبمجرد أن يصبح حادث ما “ترندًا”، يُصاب المستخدمون بـتحيز البايس (Bias) حيث يبدأون بملاحظة أي حادث مشابه في كل مكان حتى و لو كان نادرًا و يتجاهلون فترات السكون الطويلة بين الحوادث ولكم أن تتخيلوا أن تأثير مشاركة حادث واحد من مليون مستخدم تصدر أثراً نفسياً يعادل قوة الأثر النفسي لمليون حادث!
إنها قوة الترند العجيبة و التي تكمن في قدرته على جعل العقل يخلط بين الانتشار الرقمي و الانتشار الواقعي.
و الآن بعد أن أوضحت كيف يخلق الترند وهم الانتشار عبر التكرار الزمني المكثف؟
فاسمحوا لي أن ننتقل الآن إلى توضيح كيف تتحول الحوادث المنعزلة إلى سردية جماعية؟
فبعد ايقاع التأثير اللازم من خلال الاستراتيجيتين السابقتين يأتي دور هندسة الترند و برمجته الخطية لضرب المجتمعات من الداخل من خلال:
أولا: التجميع الاصطناعي عن طريق خلق روابط وهمية من خلال تجميع حوادث متفرقة زمنيًا وجغرافيًا تحت هاشتاج واحد #حوادث_الخطف مثلًا لإسقاط سردية واحدة مستهدفة للترويج مثلاً لتزايد نشاط تجارة الأعضاء برغم عدم وجود رابط حقيقية، فمثلاً حادثتي خطف خلال شهر على مستوى دولة كبيرة من حيث عدد السكان و المساحة يمكن أن يتحولوا من خلال التغطية الإعلامية + الترند إلى “ظاهرة” رغم أن نسبتها الإحصائية ثابتة أو حتى أقل من المعدلات العالمية، وهو ما يمارسه الإعلام الموجه لتدمير المجتمعات من الداخل و نشر حالة اليأس و الانهزام الجماعي المتتالي.
ثانياً: التأطير الإعلامي الدرامي و ذلك من خلال تحويل الحادث إلى نموذج أي من حادث فردي إلى رمز ، مثل: حادث تحرش يُصبح بعد مروره بالمعالجات السابقة “دليلاً على تفشي الظاهرة” و تستخدم لأجل ذلك اللغة الدرامية: (وباء– انهيار– “كارثة).
و مكمن الخطورة في هذه الاستراتيجية هو تعمد إخفاء السياقات الخاصة بكل حادث سواءا كانت أسباب إجتماعية أو أخلاقية.
و خلاصة القول، معياركم الفاصل لتقييم الترند الطيب و الترند الشرير “إذا جازت لي هذه التسمية ” هو الإجابة عن الأسئلة التالية:
هل يتناول الترند ظاهرة حقيقية مهملة إعلامياً مع وجود إحصائيات صاعدة؟
و الأهم من ذلك هل تستمر نفس الحوادث بعد زوال الترند؟
أم هو ظاهرة وهمية مبتورة بدليل إختفاء الحديث عنها بعد انتهاء “الموضة الرقمية” ؟
و في جميع الأحوال يكون الحفاظ على الثبات الانفعالي للتعامل مع الترندات هو سلاح الردع
الأمثل لتفكيك الترند وهو ما يعرف في علم النفس بأهمية التنظيم العاطفي في عصر الإغراق المعلوماتي.
لذلك ينبغي التعامل مع الترند كمطرقة إدراكية تضرب على مسامعنا حتى تتحول ذرة الرمل إلى جبل في الوعي الجمعي و هو ما لخصه أجدادنا في المثل الشعبي
” الزن على الودان أمر من السحر “.
ليبقى الترند هو المتهم الرئيسي في تشتيت مواردنا و طاقتنا عن مشكلات مزمنة لم تتحول عمدا لترندات و يزرع مكانها ألغام تفجر السلام المجتمعي بين فئات المجتمع من خلال التعميم و التضليل المجحف و الترويج
لأزمات وهمية.
إن فهم هذه الآليات تحولك من ضحية للترند إلى خبير في تفكيكه.
و تذكر دائماً أن مفتاح فك شفرة الترند هو.. “لا تشارك حتى تختبر”
قال الله تعالى في محكم كتابه
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ }
و عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
” كفى بالمرء إثما أن يحدث بكل ما سمع “.
و ايضا قال الكاتب الأمريكي مارك توين:
“أصعب شيء في العالم هو إقناع إنسان بمعلومة، وأسهل شيء هو إقناعه بوهم”.
أتمنى من الله أن أكون قد وُفْقِت من خلال هذا المقال في المساعدة لشرح هذه الآلية كخطوة أولى لتجنب الوقوع في فخ واقع صنعته الترندات.